مع الإعلان عن بدء محاكمة الوزير الإسرائيلي، غونين سيغف، الذي اعتقل بتهمة التجسس لمصلحة إيران، واتهامه رسمياً بمساعدة العدو خلال الحرب وتقديم معلومات له بغرض المساس بأمن الدولة، تعزّزت التقديرات التي رأت في كشفه واعتقاله، اختراقاً إيرانياً نوعياً لمنظومات الاستخبارات الإسرائيلية، ونجاحاً استخبارياً في توجيه ضربة غير مسبوقة للأمن الإسرائيلي. ووسّعت أيضاً دائرة الاحتمالات الجدية حول إمكان أن تكون إيران حققت المزيد من الاختراقات المشابهة في الواقع الإسرائيلي. وهو معطى سيحضر في خلفية الكثير من التقديرات والمواقف التي ستقدمها المؤسسة الأمنية أمام مؤسسة القرار السياسي.المعطى الإضافي الذي كشفته محاكمة سيغف، هو الإبقاء على سرية الكثير من مواد الاتهام، ومنع نشر تفاصيلها من جانب وسائل الإعلام، وهو ما يكشف عن مستوى الخطورة التي تنظر من خلالها الأجهزة الأمنية والقضائية للمهام التي نفذها لمصلحة الاستخبارات الإيرانية. وعلى هذه الخلفية، تقرر أن تكون جلسات المحكمة مغلقة وحظر نشر عشرات المواد التي وردت في الاتهام، بناء على طلب النيابة العامة من هيئة المحكمة التي وافقت على الطلب لأسباب أمنية، وهي معلومات – بحسب تقارير إعلامية – تتعلق بكيفية حصول سيغف على المعلومات التي سلّمها للإيرانيين وبالمهام التي كُلِّف بها. وبحسب موقع «تايمز أوف إسرائيل»، فإن لائحة الاتهام تضمنت اتهاماً بـ«التجسس المشدد» وهو تعبير يعكس «صورة أشد من تهمة التجسس».
بعدما أكدت لائحة الاتهام التي وجهت إلى سيغف أنه سلّم معلومات عن منشآت أمنية وعسكرية في إسرائيل، اتضحت الصورة أكثر حول حجم الدور الاستخباري الخطير الذي قام به، الذي بالتأكيد أدارته الاستخبارات الإيرانية، وفق برنامج يلبي متطلبات الصراع ضد إسرائيل. ولم يعد الأمر يدور عن مخاوف أمنية من أن يكون حدَّد للإيرانيين الأماكن الاستراتيجية والأكثر حساسية على المستويين العسكري والأمني والاقتصادي، وهو ما يتساوق مع حقيقة أن الجاسوس هو وزير سابق يملك قدراً من «الحصانة» المعنوية، تُوفّر له هامشاً مهماً من حرية التحرك من شمال فلسطين المحتلة إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها. ويملك مخزوناً معلوماتياً واسع بالقياس إلى أي «مواطن» آخر. وأهمية هذا النوع من الأهداف أنه يخدم القدرات الصاروخية الدقيقة لمحور المقاومة، التي تحتاج أيضاً، إلى المزيد من الأهداف الموضعية في العمق الإسرائيلي. وسبق أن كشفت تقارير إعلامية إسرائيلية فور الإعلان عن اعتقاله، بأنه سلّم الجهات الإيرانية المشغلة له معلومات عن داخل المؤسسة السياسية وعن منشآت أمنية، منها ما يعرفها الجمهور ومنها ما لا يعرفها.
في السياق نفسه، يمكن بقدر الربط بين التقارير التي تحدثت عن تعزيز إجراءات الحماية لشخصيات إسرائيلية أساسية، من ضمنهم رئيس الوزراء السابق إيهود باراك، وبين اعترافات سيغف الذي تضمنت لائحة اتهامه أيضاً، بأنه سلم معلومات عن شخصيات أمنية. ولا يتعارض هذا الربط مع السياق التوظيفي لهذا الإعلان، ومع أرجحية أن يكون القرار استند إلى معلومات وتقديرات تتصل بالمرحلة التي يمر بها الصراع بين إيران وإسرائيل. وكانت تقارير إعلامية إسرائيلية قد كشفت عن لقاء استثنائي بين باراك ورئيس الشاباك نداف أرغمان في مكان إقامته في تل أبيب. وأوضحت القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي أن خلفية هذا اللقاء غير العادي، تعود إلى الخشية من محاولة إيرانية لاستهدافه وهو في الخارج.
أسقطت محاكمة سيغف ومحتوى لائحة الاتهام الموجهة بحقه، محاولته تقديم نفسه كعميل مزدوج، وبدّدت جانباً من الغموض والتساؤلات حول مستوى خطورة الاستفادة الاستخبارية والعملانية الإيرانية، من المعلومات التي قدمها، وهو ما يتلاءم مع حقيقة أنه استمر بمهامه الاستخبارية لمدة ست سنوات، 2012–2018، ومع كون الاستخبارات الإيرانية زوّدته بمنظومة اتصالات سرية مشفرة لتبادل الرسائل، وهي مرحلة متقدمة لا تلجأ إليها الاستخبارات إلا بعدما تكون تأكدت من جديته وصدقيته.
وفي الإطار نفسه، يصح الجزم أنه بعد اكتشاف تجسّس سيغف، ومستوى خطورة المهام التي نفذها، اتسعت دائرة الاحتمالات لدى الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية حول إمكان أن تكون إيران نجحت في تجنيد غيره من الشخصيات التي تملك «وزناً نوعياً» في الواقع الإسرائيلي فضلاً عن مواطنين إسرائيليين، على قاعدة أنه لم يعد بالإمكان الاستناد إلى مقولة أن المجتمع الإسرائيلي محصن في مواجهة أعدائه أو إلى التفوّق الاستخباري الإسرائيلي المضاد.
تبقى حقيقة أنه مع بدء محاكمة الوزير الإسرائيلي بتهم تنطوي على هذا المقدار من الخطورة، ولمصلحة أشد أعداء إسرائيل خطورة على أمنها القومي، الجمهورية الإسلامية في إيران، سقطت مقولة أنه لا يمكن تجنيد «يهود» يعملون ضد إسرائيل. وفي الموازاة استطاعت الاستخبارات الإيرانية أن تنتزع إقراراً بالدليل العملي، من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على طموحاتها وكفاءاتها، وجرأتها. ويتلاقى هذا الإقرار مع ما سبق لنائب رئيس أركان الجيش اللواء يائير غولان أن تناوله في كلمة له أمام مؤتمر أمني لمعهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى (7/9/2017) بالقول إن «الإيرانيين أكثر تطوراً وعلى مستوى أعلى من الحضارة. طهران تملك بنية تحتية أكاديمية، صناعة جيدة، علماء جيدين، وشباناً يتمتعون بمواهب كثيرة. إنهم يشبهوننا جداً، ولذلك فإنهم أشد خطورة. ولذلك بحسب رأيي، لن نتمكن من مواجهتهم وحدنا». وأضاف أن إسرائيل تحتاج للانتصار على إيران إلى مساعدة أميركية، مشدداً على ضرورة «الاعتراف بذلك».