الرباط | منذ تاريخ اعتقال ناشطي حراك الريف قبل نحو عام، تواصلت محاكماتهم، وانتهت قبل أيام قليلة بإصدار أحكام تراوحت بين عشرين سنة سجناً وثلاث سنوات، وطاولت قادة الحراك أمثال ناصر الزفزافي ونبيل أحمجيق (عشرون سنة)، ومحمد حاكي وزكريا أضهشور ومحمد أهنوش (خمس عشرة سنة)، ومحمد جلول وكريم أمغار وصلاح لشخم وغيرهم (عشر سنوات)، فيما تراوحت الأحكام الأخرى بين خمس سنوات وثلاث سنوات.عقب صدور هذه الأحكام، يبدو من خلال موجة الاستنكار التي عمت تقريباً مختلف الفاعلين والرأي العام، أنّها جاءت ثقيلة، لكنّها ليست مفاجئة لاعتبارات عدة.
طوال الأطوار الماراتونية لجلسات المحاكمة، كان المتخصصون في القضاء وغيرهم من سياسيين وإعلاميين يعتقدون بأنّ الأحكام ستكون قاسية، مستندين في ذلك إلى الحساسية الأمنية والسياسية التي خلقها ملف حراك الريف.
هذا الحراك انطلق في شهر تشرين الأول/ اكتوبر 2016 في مدينة الحسيمة (أقصى الشمال عند ساحل المتوسط) مباشرةً بعد مقتل بائع السمك الشاب محسن فكري، طحناً في شاحنة نفايات عقب خلاف مع رجال أمن حول مصادرة بضاعته. واتسع الاحتجاج في شكل تظاهرات احتجاجية أسبوعية عارمة، شارك فيها عدة آلاف من سكان مدينة الحسيمة مساء كل يوم جمعة، وعلى مدى أكثر من عام، ما خلق مشاهد شبيهة بتظاهرات «الربيع العربي» في أكثر من مدينة عربية قبل سبع سنوات خلت. في البداية، تعاملت السلطة المركزية بالرباط بنوع من المرونة مع الحراك، بيد أنّ استمراره وتطوراته التي أفضت إلى مؤشرات عصية على الضبط، جعلها تستعمل وسيلة الاعتقال ثم القضاء لإخماده.
مما أذكى الحراك إرث التمرّد على السلطة الذي يُعرف به الريف


من المعطيات التي كانت محرجة للسلطة المركزية أنّ الحراك تولّد عنه قادة باتوا مؤثرين في مساره، على رأسهم ناصر الزفزافي، ونبيل أحمجيق، ومحمد جلول. الأول وهو شاب في أواخر العقد الثالث من العمر، كشف عن قدرات قيادية وخطابية نادرة وبمعايير محلية، إذ استعمل اللهجة المحلية الريفية ـــ الأمازيغية لمخاطبة أهله في مدينة الحسيمة والحواضر الصغرى والقرى المحيطة بها، مستعيناً بمضمون مكونات إرث اجتماعي وسياسي وثقافي تعتبر من الخصوصيات العميقة في المنطقة. محاور خطاباته تناولت في ما بعد مطالب اجتماعية وتعليمية وصحية تفتقر إليها منطقة الريف، وحظيت خطاباته المُعرّبة بالدارجة المغربية بانتشار كبير في وسائط التواصل الاجتماعي (فايسبوك، يوتيوب، إلخ)، ما جعل السلطة أمام تحدي انتشار الاحتجاجات في باقي مناطق البلاد نظراً إلى تشابه الواقع الاجتماعي، لا بل تطابقه.
مما أذكى موضوع حراك الريف، وجعله في صلب الاهتمام والانشغال، رسمياً وشعبياً، أن الريف معروف بإرث التمرّد على السلطة، إذ لا تزال ذاكرة أبناء المنطقة تحمل آثار جراح غائرة للتدخلات العنيفة للسلطة المركزية خلال حكم الملكين محمد الخامس والحسن الثاني، وأبرزها انتفاضة المنطقة بين عامي 1958 و1959، حين استقل الحسن الثاني شخصياً، وكان حينها ولياً للعهد، بمعية جنراله الشرس محمد أوفقير، طوافة عسكرية أمطرت سكان المنطقة بوابل من الرصاص، ما أسفر عن آلاف القتلى والجرحى، مروراً بانتفاضات اجتماعية أخرى في مستهل سنوات الثمانينيات والتسعينيات، أسفرت عن تدخلات أمنية عنيفة واعتقالات جماعية، وهذا ما بات يُعرف عقب رحيل الحسن الثاني (1999) بـ«سنوات الرصاص».
حراك الريف الأخير يندرج في صيرورة التمرّد المعروف عن أبناء منطقة الريف، ولذلك تعاملت السلطة المركزية، عقب «تكتيك» المرونة الوجيز، بحدة أمنية، مستعملة أيضاً لغة التخوين، وكالت للحراك وقادته اتهامات بـ«تلقي مساعدات مادية أجنبية» و«خدمة أجندة انفصالية» و«تهديد السلامة الداخلية للدولة»، وغير ذلك. ووصلت الأمور إلى حدّ استعمال العنف والاعتقال حيث أسفر الأسلوب الأمني عن اعتقال نحو 500 شاب تم تقديمهم إلى المحاكمة في مدينتي الحسيمة والدار البيضاء. وبينما تراوحت الأحكام في الأولى بين عشر سنوات وسنتين، جاءت في الثانية ثقيلة كما سبقت الإشارة. وجدير بالذكر أنّه خلال آخر جلسات محاكمة لمعتقلي «سجن عكاشة» في مدينة الدار البيضاء، انسحب أعضاء هيئة الدفاع، ثم موكليهم، بعدما تأكد لهم أنّ النية مبيتة في إنزال أقصى العقوبات.
توقُّع الأحكام القاسية خلال الجلسات الأخيرة لا ينفي أنّ ملف حراك الريف بات في الواقع يشكّل منعطفاً سياسياً وأمنياً حاسماً في المغرب، باعتبار أنّه يؤشر إلى عدم انتهاء «سنوات الرصاص» التي طبعت الحياة السياسية في المغرب عقب الاستقلال، ومما قد يغذي ذلك أنّ معتقلي الحراك كشفوا خلال أطوار محاكمتهم الماراتونية عن تعرضهم لأساليب تعذيب مهينة بلغت حدّ استعمال وسائل تعذيب وتنكيل جنسية ونفسية.