إريتريا أيضاً في الحرب على اليمن. ليس للدولة الفقيرة، التي يحكمها أسياس أفورقي منذ التسعينات، لا جيش ولا مرتزقة للقتال ضد اليمنيين، كما فعلت السودان. لكنها مع ذلك تقدم ــ للحرب على اليمن ــ القاعدة الأساسية في ميناء عصب، حيث تنطلق منها القوات الإماراتية في عملياتها ضد صنعاء. ومن دون التوسع الإماراتي، المبكر، على الساحل الإريتري المقابل للحديدة اليمنية، لم يكن للإماراتيين أن يملكوا فرصة الوقوف اليوم على رأس الحملة التي يجري إعدادها لقطع شريان الحياة العسكري والأهلي عن صنعاء، أو الضغط عليها لإملاء شروط «التحالف» على «أنصار الله». «الإمبريالية» الإماراتية في البحر الأحمر والمحيط الهندي سبقت النزاع اليمني بسنوات. ولكن أصغر «الإمبرياليات» الخليجية التي لا تتجاوز المليون نسمة، مسلحةٌ بموارد غير محدودة تقريباً تستند إلى 700 مليار دولار من الناتج القومي الخام (عام 2017)، تحصد اليوم ثمار سياسة انتشار وتوسّع لم تتوقف منذ مطلع الألفية الثالثة.
صحيح أن الإماراتيين يملكون خبرة تعود إلى القرن الرابع عشر في البحار التي تحيط بشبه الجزيرة العربية، يتفوّقون فيها على دول الخليج العربية الأخرى، إلا أنهم بخلاف أقرانهم يضعون خبرتهم في خدمة مشروع يطمح إلى بناء «إمبريالية إقليمية» تطوق شبه الجزيرة العربية وشرق أفريقيا، بسلسلة من القواعد، لا تهدف فقط إلى احتواء إيران أو محاربة الإرهاب، بل تذهب أبعد من ذلك. وعلى خطى السوفيات في الحرب الباردة حول البحر الأحمر سار الإماراتيون، بل وورثوا قواعدهم في الصومال ــ في مرفأي بربرة وبوصاصو، وميناء عصب في إريتريا، ونزلوا في جزيرة سقطرى جنوب اليمن، وأقاموا هيئة أركانهم المشتركة في جزر حنيش اليمنية، ونزلوا في قاعدة الكاظم في المرج الليبية.
يلعب الإماراتيون في ملعب الكبار بل ينافسون في البحر الأحمر والمحيط الهندي، قوى بحرية كبيرة أقامت حتى الآن خمس قواعد لها في جيبوتي؛ الصين التي وصلت العام الماضي بحجة مواجهة القرصنة، وليس كخطوة أولى للخروج من بحر الصين الجنوبي، والمشاركة في حماية طرق تجارتها؛ وهناك فرنسا القوة الاستعمارية السابقة التي أبقت جنودها في قاعدة بحرية أقامتها منذ قرن؛ وتستقبل قوات ألمانية وإسبانية، فيما يفضل الإيطاليون قاعدة مستقلة، فضلاً عن الولايات المتحدة التي جاءت بأربعة آلاف جندي إلى جيبوتي، بعد هجمات أيلول 2001.
وأيضاً، على مداخل الممرات الاستراتيجية، كباب المندب أو بالقرب من مضيق هرمز أو على طول الطريق البحري الذي يتحكم بأهم خطوط التجارة العالمية من خليج عدن والقرن الأفريقي وصولاً إلى المتوسط عبر قناة السويس.
ويعتمد علوّ الطموح البحري الإمارتي على قوة متواضعة مؤلفة من 2500 بحار فحسب. ويعمل هؤلاء على 11 سفينة سريعة وأربع ناقلات للقوات وسفينة تموين وحيدة، وثماني سفن دورية، واثنتين هجوميتين، وكاسحتي ألغام. كذلك يحمل المشروع التوسّعي الإماراتي 65 ألف جندي و464 دبابة و2000 مدرعة، وقوة جوية من أربعة آلاف رجل، يديرون 500 مروحية وطائرة، من بينها 210 مقاتلات.
ومن دون التحولات الكبرى التي تعصف بالإقليم بأسره، من مصر وليبيا وسوريا وحربها الأهلية ــ الإقليمية، فاليمن، ما كان للإمارات أن تنقلب إلى إسبارطة في قلب شبه الجزيرة العربية، بعد أن كانت لعقود دولة «عادية» تندرج تحت المظلة السعودية والأميركية، تهادن إيران، وحتى تنظيم «القاعدة»، حماية لإزدهارها التجاري من التقلبات والنزاعات الإقليمية. شكّلت الإمارات العربية المتحدة، وخصوصاً دبي، نموذجاً للرأسمالية في طورها النيوليبرالي، مما حدا بالمفكر مايك ديفيس، إلى عنونة كتابه «مرحلة دبي في الرأسمالية». عن دبي، يقول مفكر آخر هو كريستوفر لاش، في كتابه «انتفاضة النخب»: «دبي هي تجسيد لأحلام الرجعيين الأميركيين، وواحة للاقتصاد الحر حيث لا ضرائب ولا نقابات ولا أحزاب معارضة. وكما هو مفترض في جنة الاستهلاك، فإن عيدها الوطني الذي يسهم في تظهير صورتها عالمياً، هو مهرجان التسوق الشهير الذي يرعاه 25 من أكبر المراكز التجارية في الإمارة. إن هذه المناسبة الجليلة للجنون الاستهلاكي تبدأ كل الثاني عشر من كانون الثاني، وتستقطب لمدة شهر 4 ملايين مستهلك من الطراز الرفيع.
ولكن للمعجزة الإماراتية جانبها المظلم أيضاً. يمكن القول إن المعجزة الإماراتية هي بحقٍ، أولاً وقبل كل شيء، صنيعة دماء وعرق الملايين من العمال المهاجرين الذين يعيشون ما بين العبودية والسخرة، وقبلة الرقيق الأبيض والأصفر في عاصمة الدعارة على الخليج، ما بين باب المندب ومضيق هرمز. وهناك الموقع الجغرافي لدبي، واستراتيجية المزاوجة بين العسكري والتجاري للانتشار حول شبه الجزيرة. إذ توفر «شركة موانئ دبي» التي تدير أضخم مرفأ يطل على الخليج العربي، وتشارك في 69 مرفأ عالمياً، دور الرديف التجاري للانتشار العسكري. ففي الموانئ التي هجرها السوفيات، وصلت الشركة الإمارتية العام الماضي، قبل القوات الخاصة والبحرية والجوية الإماراتية، عبر اتفاقات تجارية قدمت فيها نصف مليار دولار، لتطوير المرفأ، والحصول على موطئ قدم في بربرة الصومالية، التي تتحكم بخليج عدن، لمنع الصينيين والأتراك من تطويرها ومنافسة مرافئ دبي أيضاً.
وهناك أيضاً الرساميل الإيرانية التي استخدمت الإمارة كمنصة تجارية، التفافاً على الحصار المستمر منذ 40 عاماً، والجاذبية الضرائبية للمناطق الحرة فيها، وتغاضي النظام عن مصادر الأموال التي تحطّ في مصارفه. وهناك خصوصاً، ذلك التغير الذي أصاب وجهة دولارات النفط حيث لم تعد الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من أيلول 2001، تلك الجنة الاستثمارية التي تستقطب الفوائض النفطية الهائلة.
وقبل صعودها العسكري في مآل طبيعي، كانت القوة المالية الإماراتية تتقدم في العشرية الماضية لتتصدر الرأسمال العربي، وتكتنز، إذ يقول تقرير «المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات» لعام 2016، إن أرصدة الاستثمارات الأجنبية المباشرة الصادرة من الدول العربية للعالم لعام 2016 بلغت 353.2 مليار دولار؛ حصة الإمارات منها نحو 113.2 مليار دولار أي 32.1 في المئة، وتلتها السعودية بقيمة 80.4 مليار دولار أي 14.5 في المئة، ثم الكويت بقيمة 31.3 مليار دولار أي 8.9 في المئة، ثم ليبيا بقيمة 20.9 مليار دولار أي 5.9 في المئة. وتتصدر الإمارات الاستثمارات الخليجية والعربية بحجم أصول تبلغ نحو 5.1 تريليون درهم (أي 1.39 تريليون دولار) بفضل قوة ضاربة من ستة صناديق سيادية تتفوق فيها على عداها من بلدان الخليج. ففي حين تملك الإمارات ستة صناديق سيادية (جهاز أبو ظبي للاستثمار، مؤسسة دبي للاستثمارات الحكومية، مبادلة للاستثمار، مجلس أبو ظبي للاستثمار، هيئة الإمارات للاستثمار، هيئة رأس الخيمة للاستثمار)، تملك الكويت صندوقها الوحيد في «الهيئة العامة للاستثمارات الكويتية»، وتملك السعودية صندوقين في «مؤسسة النقد العربي السعودي» (ساما)، و«صندوق الاستثمارات العامة السعودي»، ولقطر هيئة للاستثمار.
وبلغة أوضح، لعبت الإمارات دوراً مركزياً في الاقتصاد السياسي لتحالف دول الخليج مع الأنظمة الأمنية العسكرية العربية ما قبل الربيع العربي في مصر وتونس. وكان بديهياً أن تتصدر الإمارات الأنظمة العربية في الاستجابة لتحديات الربيع العربي. إذ بادرت للتصدي لقواه «الإخوانية» بسرعة أكبر من السعودية، بسبب مركزية النظام وقراره حول ولي عهدها محمد بن زايد، بينما حالت شيخوخة النظام السعودي في ظل الملك عبدالله بن عبد العزيز دون استجابته بسرعة مماثلة لنتائج الربيع العربي، لتركيبته متعددة الأقطاب، وتعقيدات آلية اتخاذ القرار. ولم يعد سراً اليوم أن محمد بن زايد لعب الدور الأول في تبسيط آليات اتخاذ القرار لدى جاره السعودي المتهالك، بدفعه محمد بن سلمان إلى الاستحواذ على السلطة في الرياض وتغيير هرمية النظام الملكي من أفقية إلى عمودية يحكمها القطب السلماني الواحد على صورة إمارات محمد بن زايد.
وفي سبيلهم نحو الخيار العسكري الذاتي والانتشار حول أسوار شبه الجزيرة لحماية فقاعتهم المالية، قرأ الإمارتيون خصوصاً، والخليجيون عموماً، تهديد الربيع العربي بصفته نتيجة مباشرة لتراخي إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إزاء الزلزال الذي هز أركان شركائهم. وأحسّ هؤلاء بالعراء السياسي والأمني بعد أن تبيّن دعم إدارة أوباما لعمليات التغيير الجارية على حسابهم. وزاد إقدام الإدارة الأوبامية على «ارتكاب» الاتفاق النووي مع إيران في تموز من عام 2015، في قناعة هؤلاء بأن الولايات المتحدة لم تعد ذلك الحليف المؤتمن على ديمومة أنظمتهم. انتقلت المنظومة الخليجية للاعتماد على نفسها لحماية دولها من العدوى الثورية، وشنّت هجومها المضاد الذي أسقط «الإخوان المسلمين» في مصر وتونس.
كانت المحطة الثانية في الهجوم المضاد، هي احتواء إيران ومنعها من التمدد في الجوار اليمني المباشر. وهو أيضاً في دوافع الانتشار العسكري الذي يجعل من الإمارات أحد القوى الأكثر جدية داخل «التحالف» الدولي الذي يشن الحرب على اليمن، في قيادة العمليات العسكرية، أو في إدارة الصراع في عدن وفرض وصاية على اليمن الجنوبي. لكن الخلاصة الأساسية التي ينطوي عليها الانتشار الإماراتي، وتعاظم الإنفاق الإمارتي على التسلح في خط بياني صاعد من معدل 3 مليارات دولار في التسعينات إلى 9 مليارات في العقد الأول من الألفية الثالثة، إلى ما يقارب 20 مليار دولار في العقد الثاني، خصوصاً عام 2016، هو إدراك محمد بن زايد، منذ أن أدار الانقلاب في السعودية بولي العهد محمد بن سلمان، هشاشة النظام السعودي نفسه. ولا يزال التسلح الكثيف والبحث عن شراكات خارج الخليج والانخراط في شكل جديّ وشرس في الحصار البحري ضد اليمن لانتزاع انتصار لا يزال بعيداً، ينطوي قبل كل شيء على خوف ابن زايد من سقوط النظام السعودي في أية لحظة خلال العملية الانتقالية المعقدة والصعبة التي لا يزال منخرطاً فيها منذ عامين، ولا يسيطر خلالها على كل مفاتيح البقاء، فيما لا تزال شكوك كثيرة تعتري قدرته على البقاء والصمود أمام تهديدات يمكن أن تتبلور من اتجاهات مختلفة، تبدأ سواءً من المؤسسة الدينية الوهابية أو الاتجاهات الإصلاحية الإخوانية أو السلفية، وتمتد لتشمل كل الذين أقصاهم محمد بن سلمان، من سلم التوريث أو الريع من الأمراء السعوديين ورجال الأعمال، أو بعض شرائح الطبقة الوسطى التي تتذمر من إجراءات التقشف التي اتخذها بن سلمان لمعالجة العجز البنيوي في الموازنة، ونقص الإيرادات والإخفاق في تنويع الموارد والاستمرار في الاعتماد على الاقتصاد النفطي وحده.
من نافل القول إن دولة الإمارات العربية المتحدة تنهض بدور يتجاوز موقعها وحجمها، لكن الانتشار العسكري لن يكون مجدياً أمام استجلابها للتهديدات وتحديها لقوى ثقيلة ووازنة في المنطقة، لن تقوى على مواجهتها «إسبارطة الصحراء».