القاهرة | ملايين الأسر تستفيد من مئات الآلاف من المتبرعين للجمعيات الأهلية بمليارات الجنيهات في مصر، ولكن معظمهم أصبح ينتظر مصيراً مجهولاً مع حملات المقاطعة التي أطلقت في وجه تلك الجمعيات سواء بسبب حجم الإنفاق الإعلاني الضخم، أو التصريحات المستفزة من مسؤوليها!
(كاريكاتير عن جريدة «المصري اليوم»)

قطار العمل المجتمعي عن طريق الجمعيات الخيرية في مصر انطلق عقب إنشاء الجمعية اليونانية في الإسكندرية عام 1821، ليصل عدد الجمعيات في تشرين الأول عام 2017 إلى 48.300 جمعية من بينها 29.043 نشطة، وذلك وفقاً لتصريحات وزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي، خلال جلسات «منتدى شباب العالم» في شرم الشيخ.
من بين هذه الجمعيات، هناك 12 ألف جمعية أهلية تنفق 10 مليارات جنيه سنوياً على العمل الخيري والمجتمعي في مصر (بحسب تصريحات غادة والي أيضاً)، وهو الرقم الرسمي الوحيد المعلن حتى الآن، من دون الإعلان عن حجم إنفاق أو موارد آلاف الجمعيات الأخرى، التي تتزايد سنوياً المطالب بإعلان ميزانياتها بشكل شفاف وواضح في ظل حالة التشكك الكبيرة التي أضحت واقعاً.
وأرسل مستخدمو الهاتف المحمول حوالى 4.9 مليون رسالة نصية للتبرع للجمعيات الخيرية المصرية، وهو ما وفّر 24.6 مليون جنيه لصالح 52 منظمة محلية في عام 2017، حسب ما جاء في بيان أصدرته شركة «تي آيه تيليكوم» للاتصالات. وانخفضت التبرعات بنسبة 4 في المئة عام 2017 مقارنة بعام 2016 حيث تراجع عدد المتبرعين من 861.940 إلى 768.486 وهو ما يعادل 10.8 في المئة، فيما ذهبت 77 في المئة من التبرعات لقطاع الصحة، حيث تبرع المستخدمون بمبلغ 19 مليون جنيه للمستشفيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية التي تعمل في مجال علاج الأمراض والوقاية منها، والتي تمثل بدورها 42 في المئة من الجمعيات الخيرية التي تجمع التبرعات من خلال منصة «ميغا خير».

إعلانات مليونية
تنشط الجمعيات الأهلية في مصر في المناسبات مثل شهر رمضان، سعياً لتلبية متطلبات المحتاجين الذين تقدر أعدادهم بالملايين. لكن الحملات الإعلانية المليونية الخاصة بتلك الجمعيات تطرح علامات الاستفهام حول العائد من ورائها، وهو ما دعا صفوت العالم، وهو أستاذ الإعلام في كلية الإعلام في جامعة القاهرة، إلى المطالبة بالشفافية في إعلان ميزانيات الجمعيات الخيرية في مصر، وضرورة الكشف عن مصروفاتها الإعلانية، لا سيما أنّ سعر الإعلان لمدة 30 ثانية في التلفزيون يقارب 16 ألف جنيه بحد أدنى، وللمرة الواحدة.
المصرف المركزي المصري دخل على خط التحذيرات، ومحاولة ضبط عمل الجمعيات، إذ طالب في 25 أيار الماضي، المصارف العاملة في مصر بضرورة التأكد المسبق من حصول الجمعيات التي يتم التبرع لها من قبل العملاء، على ترخيص بجمع المال من وزارة التضامن الاجتماعي، وذلك قبل السماح بفتح حسابات لها والسماح لها بجمع أموال التبرعات المصرفية، لأن هذا مخالف لأحكام القانون.
مؤسسة «شركاء من أجل الشفافية» كشفت بدورها عن أنه من بين 22 ألف جمعية، هناك سبع جمعيات فقط تستحوذ على 80 في المئة من أموال التبرعات، من بينها «بنك الطعام»، و«مصر الخير»، و«مستشفى 57357»، و«الأورمان»، و«رسالة».
برغم ذلك، تقول سحر الشربيني، وهي مديرة العلاقات العامة في جمعية «الأورمان»، إنّ أربعة في المئة من دخل الجمعيات الخيرية يذهب إلى الدعاية والإعلانات، وفقاً لما حدده نص قانون الجمعيات الأهلية في مصر، موضحة أن الجمعية تتحمل جزءاً من تكلفة الإعلانات، بينما النصيب الأكبر منها يتحمله الرعاة، فضلاً عن أنّ هناك بعض القنوات التي تمنح تخفيضاً للجمعيات الخيرية، مشددة على أهمية الدعاية والإعلانات التي تحثّ المواطنين على التبرع.

«لا فقراء في مصر»!
خلال جلسة «إسأل الرئيس» في 16 أيار الماضي، وبحضور الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أطلق مدير جمعية «الأورمان» اللواء ممدوح شعبان تصريحاً مثيراً للاستغراب، حيث قال: «مفيش حد في مصر فقير»!
إثر ذلك، ضجت وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي بحملات واسعة انطلقت لمقاطعة الجمعية، وإخراج التبرعات بعيداً عنها، لا سيما أن تصريح اللواء شعبان استفز المتبرعين، خاصة أن ميزانية الجمعية تضاعفت ووصلت إلى مليار جنيه بحسب شعبان نفسه، لترتفع معدلات الشك الذي أثار جملة أسئلة وُجهت للجمعية، ومفادها: إذا لم يكن هناك فقراء فلماذا تجمعون التبرعات؟ وأين تنفقونها؟ وهل فعلاً مصر بلا فقراء؟ ولماذا الإنفاق الكبير على الحملات الإعلانية المطالبة بالتبرعات؟ وما ميزانية هذه الحملات وما العائد من ورائها؟ وغيرها من الأسئلة.
العدد الضخم للجمعيات الخيرية في مصر يسفر عن مشاكل عدة


مدير جمعية «الأورمان» اضطر إلى التراجع عن تصريحاته، مؤكداً أنها اجتزئت من سياقها، وأنه كان يقصد فقط أنّ «الخير أصبح موجوداً في كل بيت مصري». وأضاف في تصريحات متلفزة أنّ «التبرعات زادت، ونطالب بزيادة أكثر وأكثر، فلا يزال هناك عدد كبير من المحتاجين».
في المقابل، لم تقف أزمات الجمعيات الخيرية في مصر عند جمعية «الأورمان»، فقد أكدت ريهام محيسن المتحدثة الإعلامية باسم جمعية «رسالة»، أنّ الوضع الاقتصادي أدى إلى تقليص حجم التبرعات، بينما تضاعفت المسؤوليات على الجمعيات الخيرية، مشيرة إلى أن «رسالة» تقدم خدماتها لنحو 3 ملايين مواطن، ولكن نظراً لتراجع التبرعات فإن الجمعية اضطرت إلى تخفيض نسبة المساعدة إلى الثلث تقريباً.
وبحسب محيسن فإنّ الجمعية لا تنفق أموالاً كثيرة على الدعاية، بل تكتفي بإعلان واحد فقط كل عام في شهر رمضان، ويكون بسعر اقتصادي، وذلك من أجل حث المواطنين على التبرع.
مؤسسة «مصر الخير» بدورها، تشهد وضعاً متراجعاً من حيث حجم التبرعات، لكن المؤسسة تستخدم بعض الخطط الاستثمارية التي تمكنها من تعويض تراجع التبرعات، وفقاً لما يؤكده رئيس قطاع التكافل الاجتماعي في المؤسسة أحمد علي، الذي يشير إلى أن هناك بعض المشروعات التي تنفذها المؤسسة وتدرّ دخلاً عليها، يتم توظيفه في تقديم المساعدات للمحتاجين.
في تموز عام 2017، أشار تقرير حقوقي صادر عن «المركز المصري للحق في الدواء» إلى وجود تجاوزات في آليات التبرع للمستشفيات الخيرية، مطالباً الحكومة بضرورة التدخل الفوري لوقف فوضى جمع التبرعات في مجالات الصحة في مصر. بحسب التقرير فإنّ نحو 18 مؤسسة خيرية تقوم بالعمل في الصحة أذاعت إعلانات على ما يقارب 34 قناة فضائية مع قيام هذه المؤسسات باستغلال الأطفال لاستثارة مشاعر المواطنين رغم أن ذلك مخالف للقانون.

فوضى التبرّعات
العدد الضخم للجمعيات الخيرية في مصر، يسفر عن مشاكل عدة تتمثل في تداخل وتقاطع مجال عمل بعض الجمعيات، واحتمال حصول بعض المستفيدين على تبرعات من أكثر من جمعية، وهو ما أثار مطالبات بتوحيد قواعد بيانات هذه الجمعيات على أن تتبع جهة واحدة فقط يمكنها ضبط أدائها خصوصاً أنّ حجم تبرعاتها بالمليارات.
عادل عامر، وهو مدير «مركز المصريين للدراسات الاقتصادية والاجتماعية» يقول لـ«الأخبار» إن «العديد من الأسباب تقف خلف تراجع الثقة في الجمعيات الأهلية، منها أن التبرع ارتبط في مصر في الأساس بالجماعات الدينية التي كانت تهيمن على العمل الأهلي والخيري في مصر على مدار عقود، وهذا الأمر تراجع بعد 30 حزيران عام 2013، لأن دور هذه الجماعات تراجع ولم يعد التبرع بنفس الوتيرة السابقة». الجدير ذكره في هذا الشأن أنّ معظم أموال التبرعات كانت تذهب إلى صناديق الجماعات الدينية التي كانت تشكل مصدراً مهماً للتبرعات، لذا تراجعت أرقام التبرعات الإجمالية.
يضيف عامر أنّ «ثقافة التبرع من دون اعتبارات ودوافع دينية ليست جزءاً أساسياً من ثقافة المجتمعات العربية وبخاصة المجتمع المصري، بعكس البلدان الغربية، حيث يعد التبرع جزءاً أصيلاً من قناعة وأفكار مواطنيها، ويتم غرس هذه المفاهيم في الأطفال منذ الصغر، لذا فالتبرعات لأهداف إنسانية أو إغاثية أو اجتماعية لا يقارن بحجم التبرعات بسبب الدوافع الدينية».
ويوضح عامر أنّ الإصلاحات الاقتصادية القاسية التي تقوم بها الحكومة المصرية، والتي تتضمن رفع الدعم عن المحروقات والكهرباء والغاز وغيرها من الخدمات، ستسفر عن زيادات متتالية في الأسعار، تؤثر بشكل مباشر على الطبقة المتوسطة، التي تعد أهم شريحة من المتبرعين للجمعيات الخيرية.
ويرى عامر أن الاستفزاز الإعلاني الذي تتصاعد وتيرته عاماً بعد عام يؤثر سلباً على قرارات المتبرعين، الذين يطرحون أسئلة مشروعة عن أسباب هذا الإنفاق الإعلاني الضخم من أموال التبرعات ولماذا لا توجه للمستفيدين مباشرة، خاصة أنّ الأثر السلبي لها على مدار السنوات الماضية يجعل تأثيرها بالسلب لا بالإيجاب على قرارات المتبرعين.