تونس | في زيارته إلى قرقنة أوّل من أمس، اعتبر يوسف الشاهد أنّ ثمة «تقصيراً أمنيّاً واضحاً» أدى إلى غرق قارب هجرة بلغ عدد ضحاياه حتى مساء أمس 68 قتيلاً، خصوصاً أنّه يأتي بعد أقلّ من عام من حادث مشابه أعقبته توصيات بتشديد الحراسة على الأرخبيل الصغير. بدا براهم هدفاً واضحاً، حيث لم يحضر في الزيارة، وبعدها بيوم، جاءت الإقالة. ضرب الشاهد عصفورين بحجر: لم تمض الحادثة من دون محاسبة، وتخلّص من شخصيّة غير مرغوب فيها. لكنّ رئيس الحكومة ليس الوحيد في جبهة معارضي براهم التي توسّعت مع مرور الزمن.رجل (صار) بلا أصدقاء
لم يشغل لطفي براهم مناصب سياسيّة من قبل، فهو رجل تكنوقراطيّ قضى مسيرته المهنيّة ضمن وزارة الداخليّة، حيث تدرّج في المسؤوليات وشغل مهاماً أمنيّة في أماكن متفرّقة من البلاد، أوصلته في نهاية المشوار إلى منصب آمر جهاز «الحرس الوطنيّ».
بدأت الحكاية من إزاحته من ذاك المنصب، حيث يُشاع أنّ «حركة النهضة» هي من كانت وراء إقالته. لم يمض وقت طويل حتى فرضت «حركة نداء تونس» تعيّينه وزيراً للداخليّة في حكومة يوسف الشاهد، كجزء من المناكفة السياسيّة مع «النهضة»، ويُقال إنّ لرئيس الجمهوريّة الباجي قائد السبسي، دوراً أيضاً في التعيّين.
اعتبر الجميع أنّ عدوّ الإسلاميّين صار على رأس الوزارة، وشُنّت في المقابل حملات وصلت حدّ الترويج إلى تورّط الرجل في فبركة عمليّات إرهابيّة وإنجازات أمنيّة. لكنّ الحال انقلبت سريعاً، ففي الأثناء أعلنت «النقابة الوطنيّة للصحافيّين التونسيّين» إضراباً عن العمل، احتجاجاً على تكرّر الانتهاكات في حقّ الصحافة، وسرت مع تشدّد العنف الأمنيّ شكوك حول عودة وزارة الداخليّة إلى منهجها القديم. فبراهم في النهاية ابن الوزارة، وتعيين أمثاله على رأسها لا يُعتبر تقليداً في تونس، ولا توجد سوى سابقتين، بطلاهما هما زين العابدين بن علي ثمّ الحبيب عمار، رفيقه في الانقلاب على بورقيبة عام 1987.
تعيين مثل لطفي براهم على رأس الداخلية لا يُعدُّ تقليداً في تونس


لم يقف الأمر عند ذلك الحدّ. لاحقاً، طالب نواب في البرلمان بالكفّ عن غلق المقاهي والمطاعم في نهار شهر رمضان، لكنّ براهم تشبّث بمرسوم يعود إلى بداية الثمانينات يُخضع هذا النوع من الأنشطة إلى ترخيص أمنيّ مسبق، واعتبر أنّ وزارته «ملتزمة بالدستور وبحريّة الأفراد، غير أنّه من الضروريّ أن تحترم الأقليّات خصوصيّات شهر رمضان التي تمسّ غالبيّة التونسيّين». أثار تصريحه موجة غضب في صفوف جمعيّات من المجتمع المدنيّ وأحزاب علمانيّة، وسّعت جبهة معارضيه أكثر.
من الجانب الحكوميّ، تسرّبت أنباء عن وجود اختلافات في الآراء بين الشاهد وبراهم، حيث رفض الأخير عدداً من التعيينات لمديرين في وزارته. لكن الأهمّ كان رحلة وزير الداخليّة إلى السعوديّة في آذار/ مارس الماضي، التي دامت لأسبوع ولم تكن معلنة مسبقاً. في حينه، قال براهم عند ملاقاته الملك سلمان بن عبد العزيز، وفق بيان لوكالة الأنباء السعوديّة، إنّه «حمل رسالة شخصيّة من الرئيس الباجي قائد السبسي». بعد عودته، في طائرة ملكيّة خاصّة، أضاف الرجل أنّ الزيارة تمّت بالتنسيق مع وزارة الخارجيّة التي تتبع أنشطتها رئيس الجمهوريّة، ما يعني تجاوزه رئيس الحكومة، مسؤوله المباشر.
آخر الصراعات بين الرجلين، كان ما تسرّب بداية هذا الأسبوع عن إعطاء الشاهد مهلة يومين لوزير الداخليّة حتى يُطبّق بطاقة جلب في حقّ وزير الداخليّة السابق والفار منذ أشهر ناجم الغرسلي، المطلوب في قضيّة «التآمر على أمن الدولة»، تشمل أيضاً رجل الأعمال الموقوف شفيق الجراية. مرّت المهلة ولم يُنفّذ قرار الجلب، بل تسرّبت حتى أخبار عن وجود الغرسلي داخل العاصمة، وعن استمرار الوزارة في صرف راتبه.

الدلالات السياسيّة
على مدى الأسابيع الماضية، عقدت اجتماعات بين الموقّعين على «وثيقة قرطاج» التي تضبط خطّة عمل الحكومة. لكن، وصلت النقاشات نهاية الأسبوع الماضي إلى طريق مسدود، إذ أراد «الاتحاد العام التونسيّ للشغل» و«الاتحاد التونسيّ للصناعة والتجارة» و«نداء تونس»، وكلٌَ لأسبابه، الاستغناء عن يوسف الشاهد، وهو أمر لم يعارضه من بين الموقّعين سوى «حركة النهضة». لم يبق الشاهد مكتوف الأيدي، ألقى كلمة يوم الثلاثاء الماضي هاجم فيها معارضيه، كما اتهم نجل الرئيس حافظ قائد السبسي، بـ«تدمير نداء تونس» ونقل صراعات الحزب إلى داخل أجهزة الدولة.
من جهته، كتب يوسف الوسلاتي، رئيس تحرير جريدة «الشعب» التابعة لـ«اتحاد الشغل»، مقالةً في عدد يوم الخميس الماضي بعنوان «لو لم يكن وزيرا الدفاع والداخليّة بعيدين عن يد الشاهد لاعتقدنا أننا إزاء انقلاب ناعم». يعكس المقال طبعاً نظرة المنظمة إلى رئيس الحكومة، لكنّه لم يأت من فراغ، إذ أتى عقب تسريب اسمين ممكنين لخلافة الشاهد، هما وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، ووزير الداخليّة لطفي براهم، وبينما رفض الأوّل اقتراح اسمه، صمت الثاني.
وبما أنّ الصراع صار داخل أجهزة الدولة، قرّر الشاهد تصفية حكومته من معارضيه. من هنا، أُقيل براهم، وهو يبدو أوّل اسم في قائمة ستتكشّف مع الأيام، فيما لم تكن حادثة غرق مركب المهاجرين سوى سبباً مباشراً.
لم يعد بإمكان أحد الآن الدفاع عن وزير الداخليّة المُقال، أما رئيس الحكومة، فقد وجد أنّها فرصة أيضاً لتحسين صورته العامة، خصوصاً أنّ وسائل إعلام مناوئة له، كرّست في الأيام القليلة الماضية الكثير من الجهد والوقت لتغطية حادثة الغرق، وتصويرها كفشل حكوميّ.
ستسمح الإقالة أيضاً بأن يقيس الشاهد شعبيّته داخل «نداء تونس»، فبعدما شهدت الأيام الماضية صدور بيانات وخروج تظاهرات صغيرة لنشطاء في الحركة، انقسموا بين مناصرته هو ومناصرة غريمه حافظ قائد السبسي، سوف يمرّ الوزير الجديد المقترح عبر البرلمان. هناك، سيظهر الانقسام داخل كتلة الحركة، الأكبر بين نظيراتها، وسيتحدّد إن كان للرجل أتباع برلمانيّون قادرون على إسناده وصولاً إلى انتخابات العام المقبل، أم أنّ رحيله سيكون مسألة وقت لا أكثر.