لا يولد شيء من فراغ. ولا يتولد نجاح عن عشوائية.كانت تجربته ملهمة بقدر وضوح أهدافها وارتفاع سقف حريتها. في ٢٥ شباط/ فبراير ١٩٦٥، قال عبد الناصر في خطاب مفتوح إنه لا يوافق أحمد سعيد في أمور كثيرة يتحدث فيها، لكنه يمتنع عن أي تدخل، فالتدخل «بيموّت صوت العرب وبيضيّع قيمة صوت العرب».
«صوت العرب لا يُسأل عما يقول، يُسأل فقط عن نتائج ما يقول».
«لا يوجد مقهى واحد في العالم العربي لا يفتح أجهزة الراديو على صوت العرب»

حتى إعلام التعبئة يحتاج إلى الحرية. الإعلام يفقد تأثيره عندما يخسر حريته.
في مذكراته غير المنشورة، يروي قصة رقيب مَنع بجهل وتعسف إذاعة أغنية ولد الهدى لأم كلثوم من شعر أحمد شوقي، بحجة أنّ الثورة قد ألغت الملكية وألقاب الأمراء في اعتراض على عبارة وردت في القصيدة المغناة. كما أنّ نفس الرقيب طلب من الشيخ طه الفشني الامتناع عن قراءة آيات من سورة الأحزاب خشية أن تمس الجيش!
كان طلبه الوحيد أن يتصرف بحرية بعيداً عن سطوة الرقابة حتى تنجح «صوت العرب» في مهمتها. وفق مذكراته، فإنّه اقترح على جمال عبد الناصر، في حضور فتحي الديب، صاحب فكرة إنشاء «صوت العرب»، إذاعة آراء المعارضة العربية للسياسات المصرية في ذلك الوقت من عام ١٩٥٤.
كانت هناك، أثناء «أزمة مارس»، تظاهرات في أكثر من دولة عربية تصدرها زعماء وقادة نافذون ضد ما يحدث في مصر مثل الإمام عبد الرحمن المهدي وابنيه الصديق والصادق، ومحمد أحمد محجوب رئيس الوزراء السوداني الأشهر في ما بعد، وميشال عفلق، وأكرم الحوراني، وصلاح بيطار، مؤسسي حزب «البعث العربي الاشتراكي» في سوريا، وبيار الجميل مؤسس حزب «الكتائب»، وإميل إده، وريمون إده، من أبرز السياسيين في لبنان.
لم يمانع عبد الناصر في ذلك الاقتراح المثير بتوقيته، شرط أن يتوافق هذا الأسلوب مع المستهدف منه. «صندوق أحمد سعيد على رأي إخواننا في اليمن اتفتح خلاص ومحدش يقدر يقفله بالضبة والمفتاح»، هكذا أخبره «رجل يوليو القوي» يومها.
مدرسته استندت إلى مشروع واضح وقضية محددة وسقف حرية مفتوح للإبداع والابتكار ودراسات في علم النفس وفنون الأداء وإيمان المذيعين أنفسهم بما يقولون.
أنفقت بريطانيا ٢٥ مليون جنيه استرليني على دعاياتها أثناء حرب السويس عام ١٩٥٦، لكنها أخفقت بقسوة أمام الإعلام المصري، كما سجّل مؤسس الدولة العبرية ديفيد بن غوريون.
بتوصيف شاع وقتها: «لا يوجد مقهى واحد في العالم العربي لا يفتح أجهزة الراديو على صوت العرب».
«لعل قصة صوت العرب مع الجزائر أول وآخر قصة لإذاعة على بعد آلاف الأميال، ولا يتجاوز إرسالها اليومي تسعين دقيقة تشهد جدرانها ثورة وهي مجرد فكرة»، كما كتب في مذكراته.
ظاهرته لا مثيل لها فى التاريخ العربى الحديث.
هو أبرز أصوات الاستقلال الوطني في العالم العربى من أوائل الخمسينيات حتى نكسة ١٩٦٧. خاض معركة إسقاط حلف بغداد عام ١٩٥٥ الذي استهدف ملء الفراغ في المنطقة بعد تراجع الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية. وخاض حرب السويس عام ١٩٥٦ حاشداً العالم العربي وراء مصر المقاتلة. ارتفع صوته فى عام ١٩٥٨ بأحلام الوحدة المصرية ـــ السورية والتطلع إلى دولة عربية واحدة.
طوال سنوات التحدي حتى انكسار هزيمة ١٩٦٧، تصدّر كل معركة من المشرق العربي في العراق وسوريا ولبنان إلى مغربه في الجزائر والمغرب وتونس إلى الخليج العربي واليمن.
الثورة الجزائرية درة التاج فى معاركه كلها. لا يمكن كتابة تاريخ ثورة المليون ونصف مليون شهيد من دون التوقف عند دوره فيها، وقد كان مركزياً بجوار زعيمها وصديقه الحميم أحمد بن بيللا.
كتب شهادته مستعيناً بأرشيف «صوت العرب» عن تجربة تحرير الجزائر، كما كتب شهادات أخرى في أجزاء مستقلة عن أيام الوحدة المصرية السورية وحرب اليمن وما كان يجري في العالم العربي من انتفاضات وثورات وحروب.
ما هو مكتوب بخط يده أقرب إلى مسودات شبه نهائية تعطي فكرة متكاملة لأول مرة عن أسرار وخفايا «صندوق أحمد سعيد»، كما كان يطلق على أجهزة الراديو في ذلك الوقت منسوبة إلى إذاعة «صوت العرب» دون غيرها من الإذاعات، وإلى اسمه وحده.
في دراسته اللافتة لما طرأ على المجتمع الجزائري من تحولات فى القيم والسلوك بأثر سنوات الثورة، أشار المفكر الفرنسي فرانس فانون، إلى دور «صوت العرب» حيث كان الجزائري العادي يشتري جهاز الراديو ليستمع إلى صوت أحمد سعيد وهو يردد كلمة «الاستقلال».
في عام ١٩٦٧، حمل بما لا يحتمل من مسؤولية النكسة. كانت الهزيمة فادحة والبيانات العسكرية كاذبة. لم يكن هو الذي كتبها، فقد تلقاها من القيادة العسكرية في ذلك الوقت. ولم يكن بوسعه تجاهلها شأن أي محطات تلفزيونية أو إذاعية أخرى. لكن كل السهام صُوِّبت إليه وحده.
في سبتمبر ١٩٦٧ خرج من الإذاعة التي أسسها عام (١٩٥٣) وتوارى إلى الظل.
خلفه على مقعده محمد عروق. لم يكن الهدف تغيير الرجال بقدر تغيير الدفة من التعبئة إلى التوعية، فقد اختلفت طبيعة الظروف والأحوال.
لم تكن مهمة خلفه سهلة، فقد تقوضت صدقية أكثر الإذاعات تأثيراً وشعبية في ما تبثه من بيانات. باليقين فإنّها معذورة أو مظلومة، كما قال عروق، حيث كانت تذيع البيانات العسكرية التي ترد إليها، ولا تتحمل أي مسؤولية عنها.
«أوقفتُ إذاعة البيانات العسكرية المزيفة عصر ٥ حزيران/ يونيو وكان التحدي أمامي هو كيف نعلن الهزيمة وندعو الناس إلى التماسك».
«لم أصنع الهزيمة وبيانات النكسة لم تكن من تأليفي».
«هل كان مطلوباً أن أذيع البيان الذي يعجبني وأحجب سواه؟!».
«الجهلاء هم الذين يتصورون أن الإعلامي يمكن أن يجتهد في حالة الحرب». هكذا كتب أحمد سعيد، في مذكراته.
عند انقلاب السياسات على عصر جمال عبد الناصر، استُهدفت تجربة «صوت العرب» بضراوة. شاعت روح السخرية من اللحن المميز الذى ارتبطت به «أمجاد يا عرب أمجاد... في بلدنا كرام أسياد». لم تستهدف السخرية الرجل وتجربته بقدر ما استهدفت الأحلام التي انكسرت.
«أعداء الخارج والداخل انتقموا من عبد الناصر في صوت العرب»، هكذا كتب بخط يده.
وفق ما قاله لي مؤسس إذاعة «صوت العرب»، فإنّ إعلام التعبئة الذي عبّر عنه أكثر من غيره وكان نجاحه أمثولة تدرس، انتهى زمنه، فلا توجد قضية تلهم ولا مشروع يقود، فضلاً عن أنّ حقائق العصر تستدعي التعدد حتى لو توافرت القضية ووجد المشروع.
من لا يدرك اختلاف العصور كمن يعاند الحقائق.
شغل تأثيره مراكز أبحاث وأجهزة استخبارات على ما تدل الوثائق الغربية المتاحة الآن. أثناء حرب السويس قصفت الطائرات محطات إرسال «صوت العرب» فى أبي زعبل شمالي شرقي القاهرة لإسكاتها. حين فشلت الغارات فى إسكات صوته، حاولت غارات من نوع آخر تشويه صورته. غير أنّ التاريخ سوف يتوقف طويلاً أمام تجربته وينصف أهم إعلامي عربي على وجه الإطلاق، وبلا منافس في القرن العشرين.
*كاتب وصحافي مصري