دمشق آمنة لأول مرة منذ عام 2012. حاجز المليون أُزيل، و«فريد» العسكري، الذي سكن «كولبة متر بمتر» في ساحة العباسيين لسبع سنوات مبتعداً عن السياسة ومصرّاً على التعريف عن نفسه بأنه «زلمة البدلة» يدافع عنها فقط ويحميها، رحل أيضاً. رحل من دون أن نثبت تورطه بالضحك ولو لمرة واحدة. الآلاف من العابرين مرّوا من أمامه ذهاباً وإياباً خلال السنوات الماضية، لكن أحداً أيضاً لم يثبت أن العَلَمَ الذي كان مثبتاً فوق رأسه قد رفرف فرحاً أو حزناً. ثبت بالنظر جلوس فريد على كرسي من التنك وعليها بعض الأقمشة، إلى جانبه ارتكى جزدان تبغ عربي، بجواره غاز صغير وإبريق وكاسة متّة مليئة على الدوام، صورة للرئيس تعلو رأسه، بارودة ارتخت على جنب، نظرات حائرة لفريد تنتقل بين شاشة الهاتف الصغير ووجوه العابرين الذين باتوا ينظرون إليه كنقطة علّام يستدل بها الضائعون.مع بداية الأزمة، وبدء انتشار الحواجز العسكرية، تحول السوري إلى «هاني»، و«هاني» في «فيلم أميركي طويل» للمبدع زياد الرحباني «كل النهار بيسحب تذكرته بيفرجيك ياها وهيدا لازم تشوفي تذكرته وتقوليلو الله معك حتى يمشي، معقّد من الأوامر والعياط والحواجز». وضع السوري بعد انتشار الحواجز استدعى منه التحول ليصبح: «إيد عالقلب» لمن ساقه حظّه الى الوقوع في كارثة تشابه الأسماء، و«إيد عالهوية»، للشباب المطلوبين للخدمة العسكرية، و«إيد عالتم»، مداراةً للضحكة التي تفرقع كما حبّة بوشار من المفارقات التي أحدثتها عولمة الحواجز الصغيرة القادمة من قرى الريف والمحمولة على كتف عبارة حفظها الجنود ورددوها طوال مدة الأزمة وما زالوا: «الشام مو إلنا»، ليعيدوا بهذه العبارة هزّ أرجوحة الهوية القلقة التي بُنيت دوماً على التسويات، فكانت النتيجة إعادة تدوير الأزمات وتجديدها.
لم يسبق للريف أن تجاوز حدوده التي رسمتها خطوات الشباب المسافرين من الريف إلى كراجات العاصمة، وبالعكس، طلباً للدراسة أو بحثاً عن عمل. ولم يسبق له أن تجرأ على رسم حدود المدينة التي ألحِقَ بها على عكس ما يقوله منطق شتلة البندورة في درعا وشجرة البرتقال في الساحل وبذرة القطن وحبة الحنطة في الجزيرة، المنطق الذي يسأل: مَنْ أنجبَ مَنْ؟ الريف أم المدينة؟
استمر الشباب بضب الكتب في الحقائب من قراهم إلى العاصمة وبالعكس، حتى بدأت الأزمة. بعدها، خلعوا «دانتيل» الحرف وارتدوا خشونة البدلة وحملوا البارودة. بعضهم كُتبت له العودة، آخرون ذهبوا إلى الأبدي، من بقي رسم على الحواجز وبألوان تراوحت بين اللين والشدة والضحكة والنكتة والعبسة والغمزة والرشوة ملامح المدينة التي لا بد أن يبقى منها الكثير في ذاكرة السوريين، أقله «حاجز المليون»، وتلك البطاقة الصغيرة التي تجاهلت أصحاب العيون الملونة، كما تجاهلت النمش المنقوش على وجوه الصبايا كحبة البركة المنقوشة على رغيف الخبز الطري، مكتفيةً بأصحاب العيون البنية والوجه الحنطي، تلك البطاقة واسمها «الهوية».
الهوية، تلك البطاقة التي لم نتعرّف إليها سابقاً ولم تدخل يوماً جيوب معاطفنا، خرجت علينا بعد الأزمة لتعرّفنا إلى أنفسنا وتخبرنا بأن لون العينين بني، والوجه حنطي والعلامات المميزة تامة، أضافت إليها الحواجز العسكرية بعد الأزمة علامة فارقة جديدة هي «المنطقة». تفوقت هذه العلامة في تأثيراتها على الاسم وتجاوزت في حدودها الصورة، فالقادم من درعا حمل ذنب أولاد لم يُتفق إلى الآن ما إذا كانت أظافرهم قد شُلِعت فعلاً أو لا، بعدما كتبوا على الحيطان تلك العبارة التي ما زالت تكتب تاريخ المنطقة بالدم. والقادم من الرقة ودير الزور حمل ذنب من رحّب بـ«داعش» أو أي «بديل». القادم من الحسكة والقامشلي حمل ذنب «الكردي» الذي يتوق إلى الانفصال، والقادم من حلب حمل ذنب من انضم من الرجال الى جبهات القتال ضد الجيش، ونساء انضممن إلى جبهات النساء الواقفات على طابور فرن الخبز في ساحل اللاذقية. القادم من ريف دمشق حمل ذنب أوائل من خرج في التظاهرات. القادم من السويداء حمل عبء من رفض الالتحاق بالخدمة العسكرية، والقادم من الساحل حمل زوّادة الضيعة وسيجارة لفّ عربي و«أهلاً بالحبيب». القادم من حمص حمل جواز سفر النكتة. طريقة التعاطي مع القادمين من المحافظات تركت أثراً يمكن رؤيته بالعين المجردة، فهذا صاحب الهوية يبدو كأنه ارتكب إثماً لمجرد أنه من الرقّة، أسلوب التعاطي المختلف معه يبدو واضحاً من التدقيق في هويته والنظر إليه من قبل العسكري تسانده الأسئلة، كما نظرات الركاب الجالسين التي تبدو أكثر قساوة من تسريحة شعر العسكري الواقف باستعداد بهمّة «الجِلّ» على حاجز في شارع الثورة.
دون أن تدري، رسمت الهوية حدود المدينة، أعادت هذه البطاقة الصغيرة تفكيك الدولة وقسمتها، أعادت الفرز وأعادت الماضي ومعه عادت الرواسب المكبوتة لتطفو على السطح. كنا اعتقدنا أننا أصبحنا في عصر ما بعد الحداثة، وأن الـ IPHONE وشاشة LG والبنطال المشقوق والتاتو المرسوم على خصر الصبية والحواجب المرفوعة، قد خلصتنا إلى الأبد من القديم والإثني والديني، لنكتشف فجأة ونحن على عتبة باب الأزمة، أن منطق تعاملنا مع أنفسنا كسوريين كان تماماً كما منطق تعامل الدولة مع أزماتها، منطق أقرب إلى التجميل والتسوية منه إلى منطق حل المشكلة، والنتيجة كانت أن 6000 سنة من عمر التاريخ ونزقه تجمّد في خانة صغيرة في الهوية هي «المنطقة»، وما تبعها من بهارات أسئلة من نوع: شو طائفتك؟ من أجل كل ما سبق، «رح تضل إيدنا عالهوية حتى لو أصبحت دمشق آمنة وحتى لو انتهت الأزمة، هذا ما يقوله منطق التسوية ولست أنا» يقول الحاج مصطفى صاحب مكتبة في الحلبونة (دمشق).
«كل شيء يوحي بالفخ، هو الأمر كذلك، أما من ينصب الفخاخ فحتماً ليس ذلك الجندي الذي يغمز بعينيه الاثنتين لتلك الصبية ويبتسم وهو يتحدث مع ركاب الحافلات التي تعبر الحاجز، بل هي الصيغة التي وصلت إليها حال البلاد».
ليس هذا ما نقوله نحن، هذا ما يقوله صاحب بقالية، وعلينا أن نتذكر أن صاحب البقالية هذا رجل بذراع واحدة يعيل كمّاً من الأفواه وقد نزح من قرية المليحة المحاذية لدمشق (جنوب شرق العاصمة)، ليفتح بقالته في دويلعة، آملاً بتحسين شرط تشردّه، دون أن ينسى لزوم التحفظ على ما يحمل قلبه من جروح دامية، ليست تلك الجروح النازفة من ويلات دمار بيته، بل تلك الجروح المستجدة التي يحملها ما بين منطقة الزبلطاني حيث سوق الهال الدمشقي وبين دكانه في دويلعة، حيث المسافة التي يقطعها يومياً والتي تعني في ما تعنيه، دفع جزء من محصوله على حاجز «المليون» وهو الحاجز الذي سمي كذلك تبعاً للربح القومي الذي يحصده عناصر هذا الحاجز المحروس من أمراء الحرب منذ بداية الأزمة، أولئك الأمراء الذين لا يذهبون الى جبهات القتال، وإنما يكتفون بحماية البلاد من صناديق الخيار والبندورة التي لا تصل إلى المشتري دون أن يُقتطع منها الكثير، وبقّالنا هذا هو واحد من الذين سيدفعون، وقد باتت ذراعه اليتيمة معتادة على إرضاء الحاجز. دمشق آمنة... نعم، هذا صحيح... مع ذلك، خلِّ إيدك عالهوية وحاج تصرّخ يا منادي.