حدثان لافتان للانتباه في تزامنهما وتناقضهما الظاهر، شهدتهما مصر خلال الأيام الفائتة. الحدث الأول، تمثل في إطلاق قوات الأمن حملة اعتقالات طاولت رموزاً شهيرة في النشاط السياسي، بمن فيهم العضو السابق في حملة الرئيس عبد الفتاح السيسي الرئاسية حازم عبد العظيم، والناشطون: وائل عباس، هيثم محمدين وشادي الغزالي حرب، في فصل جديد من مسلسل خنق المجال السياسي العام في البلاد.وأما الحدث الثاني، فكان سلسلة اجتماعات عقدها المقدم أحمد شعبان، المكلف بإدارة مكتب رئيس الجمهورية، مع عدد من رموز الأحزاب، من بينها أحزاب محسوبة على المعارضة، مثل «الحزب الديموقراطي الاجتماعي» و«حزب الدستور»، بغرض «إعادة هندسة الحياة الحزبية»، في خطوة مناقضة، تشي برغبة ظاهرية في إعادة فتح المجال السياسي المخنوق، لا بل الذي يعاني منذ سنوات من حالة موت سريري.
هذه الاجتماعات، نتج منها إطلاق سراح عدد من الشخصيات السياسية الحزبية بعفو رئاسي، وأعقبها انضمام العميد محمد سمير، المتحدث العسكري السابق، إلى «حزب الوفد»، وتعيينه مساعداً لرئيس الحزب لشؤون الشباب، ومن ثمّ دعوة الحزب المصري العريق كل الأحزاب المصرية إلى اجتماع تحت مسمى «لمّ الشمل» بهدف إعادة هندسة الحياة السياسية، بإعادة «اندماج» غالبية تلك الأحزاب، واقتصار الحياة الحزبية على مجموعة صغيرة تضم كل التيارات والاتجاهات.
هذه المبادرة أتت تلبية لدعوة أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال كلمته في المؤتمر الوطني الخامس للشباب لاندماج الأحزاب السياسية، والوصول إلى مشهد سياسي يتصدره حزبان قويان، أو ثلاثة بالحد الأعلى.
في الظاهر، تبدو الخطوة مبادرة تحمل سمات إيجابية لإعادة تحريك المياه الراكدة في المشهد السياسي، وفرصة لإعادة تأطير حركة الاعتراض المشتتة، والعاجزة عن إحداث أي تغيير سياسي. لكن الخطة تخرج عن هدف كهذا، طالما يجري تقديمها باعتبارها خياراً وحيداً تطرحه السلطة السياسية لمن يريد العمل بالسياسة في مصر، لا بل إن هذه «المبادرة» استبعدت منها أحزاب وتيارات لا يرى النظام المصري أنها ستساهم في رؤيته، مثل «حزب الكرامة» الذي نفى مسؤوله الإعلامي طارق سعيد، في اتصال مع «الأخبار» تلقيه أي دعوة لحضور الاجتماعات، وكذلك «حزب مصر القوية» وفق كلام أحمد سالم القائم بأعمال رئيس الحزب.
تبدو النخبتان العسكرية والرأسمالية موحدتين أكثر من أي وقت


علاوة على ما سبق، فإنّ الاعتقالات الأخيرة أتت لتطاول الشخصيات التي من المتوقع معارضتها «المزعجة» لتلك الخطة من ناحية، ولتخويف النشطاء السياسيين لقبول ما يُقدم لهم من النظام من ناحية أخرى، وهي فرضية تصبح أكثر احتمالاً، إذا ما نظرنا إلى طبيعة الشخصيات التي جرى توقيفها.
مع ذلك، فإنّ ثمة من يقارب «المبادرة» الحزبية بنظرة إيجابية، ولا سيما على مستوى النخب الحزبية، في وقت أصبحت فيه الحياة السياسية مجمدة كلياً، وفي حالة شبه ميتة، وبالتالي فإنّ كثيرين يرونها «أفضل من لا شيء على الإطلاق»، في حين يرى آخرون أنها تكرار لفشل الأنظمة السابقة في رسم الحياة السياسية على هوى النظام الحاكم.
في هذا الإطار، يقول أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة عمر عبد الرحمن، في حديث إلى «الأخبار»، إن تلك المحاولة من جانب النظام تهدف إلى توحيد أنصاره المفككين والمبعثرين، وخصوصاً أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة كشفت عن خطورة هذا التفكك من ضعف في الحشد، في ظل صراعات محلية، بخلاف ما كان يحدث قبل الثورة، حيث كان «الحزب الوطني» وحده مكلفاً بتلك المهمة.
ولكن خوفاً من اقتران اسم السيسي بكيان حزبي قد تتكرر فيه تجربة «الحزب الوطني» في سعي أعضائه لتحقيق المصالح الشخصية، كان الحل الأمثل، بنظر عبد الرحمن، هو إدماج الأحزاب في كيانين أو ثلاثة على الأكثر، تقودها شخصيات ذات خلفية عسكرية أو أمنية، ويحتفظ السيسي منها جميعاً بالمسافة ذاتها، بالشكل الذي لا يجعله يتحمل تبعات أخطائها.
ويضيف عبد الرحمن أن الهدف الثاني يتمثل في السيطرة على الجبهة المعارضة بجذرية للنظام، والتي تُعاني من التشتت المقلق نفسه، بحيث يصعب التنبؤ بسلوكها، علاوة على وجود عناصر قابلة للتعامل معها من قبل النظام، وأخرى رافضة، ولكن مع صعوبة التمييز بينهما. من هنا تأتي أهمية إنشاء حزب أو حزبين لهذه الجبهة المفككة، ولكن ذلك يتطلب في الوقت نفسه «مزيداً من القمع» للعناصر غير الراغبة في الانضمام، وهو ما شاهدناه في حملة الاعتقال السابقة التي رافقت عفواً رئاسياً عن بعض أعضاء الأحزاب المشهورة.
نجاح هذه الخطة، بحسب عبد الرحمن، يتوقف على درجة تماسك النخبة العسكرية والأمنية، ومن ورائها الطبقة الحاكمة من رأسمالية مالية، حيث تشير التجارب المختلفة للسلطويات البيروقراطية في جنوب أوروبا أو أميركا اللاتينية إلى أن انفصام العلاقة بين النخبة العسكرية والطبقة المالكة كان له عظيم الأثر في أن تتحول الأخيرة إلى دعم كيانات حزبية قائمة بالفعل، وبالتالي تتحول تلك الكيانات إلى قوى سياسية فعلية بعدما كانت مجرد هياكل لتنظيم التأييد.
لكن حتى الان، لا يبدو أن ثمة توتراً يذكر بين طرفي تلك العلاقة يلوح في الأفق، بل على العكس، تبدو النخبتان العسكرية والرأسمالية موحدتين اليوم أكثر من أي وقت مضى، وفقاً لما يقول عبد الرحمن.