مرّ سبعون ألف عام وفق توقيت الحاجة فضة على النكبة الفلسطينية، لكنها لم تخلع ثوب العاشرة من عمرها ولم تغسل عنها غبار المكان ولا الزمان؛ هي التي تعيش كل يوم أربعاً وعشرين ساعة من الذاكرة، لتعود إلى بيتها في فلسطين، الذي تصفه بأدق التفاصيل، كأنه لم يهدم ولم يبن محلّه معلم سياحي. تعيش الحاجة فضة اليوم في حي حطين في مخيم عين الحلوة للاجئين، الذي يهاب كثيرون دخوله. تمضي ما تبقى من عمرها في دكان صغير حيث تجالس ابنة عمها ورفيقة دربها في اللجوء الحاجة فاطمة. جلست معهما لعلّي أحصل مصادفة على حصتي في الإرث، التي كنت قد خططت لها مع حفيدتهما (هما سلفات أيضاً). لكن الإرث الفلسطيني لا يقاس بمساحة الأرض ولا بالأوراق الخضراء التي تدخر في المصارف أو في القصب كما اعتاد الأجداد. هنا يقاس الإرث بعدد السنين التي عاشوها قبل اللجوء، ولعل عشرة أعوام ليست كافية لذاكرة نصفها أصبح ينتمي إلى الغياب. بتوقيت فضة هي أمضت عشرة آلاف عام في أحضان فلسطين تشرب من عيون طبريا مياهاً باردة عذبة وتأكل التين «الفراطي والشتاوي والبياضي والزرقاوي».
خرجت فضة وفاطمة مع عائلاتهما في منتصف أيار بعدما أُحرقت منازلهم ودُمرت كل القرى التي لجأوا إليها تباعاً. فمن يجهل صمود فلسطين، يظن أنهم خرجوا منها بإرادتهم وتخلّوا عنها، أما هم، فحاولوا البقاء في بلدهم حتى آخر منطقة وصلوا إليها بعد مجزرة دير ياسين، وحتى أحرقت كل خيمة ناموا فيها وهم يسعمون: «كلهم يومين وبترجعوا». في منتصف ذلك «الأيار»، قبل 70 سنة، طاف الفلسطينيون طواف الوداع، وحجّوا أشتاتاً إلى لبنان والأردن وسوريا ومصر، تلاحقهم زخات الرصاص التي كان يطلقها الصهاينة ابتهاجاً بيوم استقلالهم في أرض لم تخلع وشاحها منذ جاؤوا إليها، ولم تظهر مفاتنها للغرباء.
في رحلة مع دموع الذكريات، تشق الحاجة فضة الزمان لتجعلنا نلتقي ذلك الفتى الذي وُلد يوم النكبة في منطقة رميش، إذ حمل اسمها أثناء هرب أمه من الصهاينة، كما تتنقل بين القوافل الراحلة إلى «الجميلة حلوة» التي استشهد زوجها أثناء المعارك مع الصهاينة ولم تتزوج منذ ذلك الحين، رغم جمالها المبهر. وخوفاً من أن تتعرض لها العصابات الصهيونية، اضطر والداها إلى أن يحجبوا جمالها بطلاء وجهها بالطين.
تتمنى فضة لو ماتت ألف مرة في وطنها ولم تعان ما عانته في اللجوء هنا في عين الحلوة، قائلة: «كل يوم عنا نكبة، يوم الموعود بنعود، لا وطن بديل عنه، ندراً عليّا لأرجع حافية، وصليني الحدود وبروحلك مشي وبعرف أوصل على البيت حتى لو هدموه». بجانب فضة، لا تزال مفاتيح بيوت الأجداد موجودة، معلقة كسلاسل تزين أعناقهم. وبينما تصدأ المفاتيح، لا تصدأ الروح؛ إنه ليس مجرد مفتاح نحاسي، إنما وصية للاستمرار وحفظ الإرث.