حين تعتبرين أنّ مشكلة الجزائر اليوم «تتمثّل في الحوكمة السيّئة للمسؤولين السياسيّين الذين استفادوا من الريع النفطيّ لتنمية اقتصاد وطنيّ وتحسين ظروف عيش الشعب»، تبدين كما لو أنّك تتمثّلين الأمر من وجهة نظر ليبراليّة، والحال أنّ العديد من الدراسات الجديّة أوضحت أنّ خيار الانفتاح الليبراليّ، أي تفكيك القطاع الصناعيّ والرغبة في تحطيم ديناميّة التنمية التي وضعتها التجربة التصنيعيّة الجزائريّة لتصحيح نقاط الضعف، هو ما عزّز مكامن الهشاشة الهيكليّة لاقتصاد مبنيّ على الريع (لم تصل التجربة إلى أقصاها لعكس الريع لمصلحة مجال الإنتاج). لماذا تختزلين مشكلة الجزائر الهيكليّة في مصطلح «الحوكمة السيئة»، وهي لازمة تحبّذها مؤسسات «بريتون وودز»؟
في كتابي «ما بعد النفط في العالم العربيّ الإسلاميّ»، حاولت الربط بين التحليل النظريّ ودراسات تطبيقيّة، لم تقم بها فقط مؤسسات بريتون وودز، بل كذلك اقتصاديّون وسياسيّون جزائريّون مثل عبد الرحمن مبطول وإسماعيل غوميزيان وغازي حيدوسي، الذين لم يترددوا خلال مناسبات عدة في الحديث عن «المرض الجزائريّ»، خاصّة أنّ الأخيرين شغلا منصبي وزيري التجارة والاقتصاد بين 1989 و1991. في الواقع، بعيداً عن حقيقة إخفاق مختلف الاستراتيجيّات التي تبنتها الحكومات المتعاقبة بين 1962 و1994، يوجد دور لعوامل أخرى مثل الحوكمة السيئة؛ السياسيّة والاقتصاديّة في الوقت نفسه. ومن المؤكد أن ذلك لا يشمل الجزائر فقط، بل الكثير من بلدان المنطقة التي درستها بشكل معمّق في كتابي، وتعرّضتُ لآثار ما يُعرف بـ«المرض الهولنديّ»، حيث تبدو الحوكمة السيئة النتيجة الطبيعيّة لهذا المرض الذي تعاني منه الدول الريعيّة.
تحمل الحوكمة السيئة عدة معانٍ، فهي تعني من الناحية السياسية الخيارات السياسيّة والإداريّة التي اتخذها أصحاب القرار العموميّون لإدارة الاقتصاد والمجتمع، إذ إنّ السياسة هي من تقود الاقتصاد كما هو معلوم. في حالة الجزائر فُضِّلَت الاشتراكيّة على خيارات أخرى، ولا يمكن تجريم خيار الاشتراكيّة، لكنّ التوجهات الاشتراكيّة التي نزعت إلى مركزة القرارات مع الحفاظ على الملكيّة الجماعيّة للثروات هي موضوع التساؤل، ذلك لأنّه كما قلت سابقاً، لم تأخذ تلك التوجهات في جملتها حقيقة وحاجات السوق والمجتمع بالاعتبار في بلد حصل للتو على استقلاله. لم يكن مسار التحوّل بعد الاستقلال مدروساً بما يكفي لدمج مفاهيم الاشتراكيّة مع وسائل الإنتاج الموجودة. وقد كشف فشل إعادة هيكلة الاقتصاد بين 1978 و1987، وكذلك انحدار أسعار النفط الخام عقب الصدمة البتروليّة المضادّة في 1986، فجوات تدل على خطورة النموذج الاقتصاديّ القائم، الذي يُموَّل حصراً بأموال البترول.
وبسبب عدم إنهاء أيٍّ من الاستراتيجيات المعتمدة، فُتح المجال أمام إصلاحات الخصخصة بين 1989 و1991، ولبرلة السوق تحت رعاية صندوق النقد الدوليّ، انطلاقاً من 1994 ضمن إطار برنامج الإصلاح الهيكليّ. وفي ما يخصّ الحوكمة الاقتصاديّة، فإنّ ذلك يعني الرقابة التي يجب أن تمارسها الدولة على استخدام المال العامّ الذي يفترض أنّ يُنمّي الاقتصاد الوطنيّ ويحسّن ظروف عيش الشعب، وذلك بمكافحة الفساد وتهريب الرساميل والبيروقراطيّة، إلخ. وأشدد مرّة أخرى على أنّ الحوكمة السيئة، سواء كانت سياسيّة أو اقتصاديّة، هي حقيقة معمّمة في أغلب البلدان الريعيّة، وليس فقط في الجزائر. إضافة إلى ذلك، من المهمّ الإشارة إلى أنّه قبل انخراطها في برنامج الإصلاح الهيكليّ، كانت الوضعيّة الاقتصاديّة في الجزائر والكثير من الدول الأخرى كارثيّة. سمحت لبرلة السوق الجزائريّة خلال التسعينيات وما بعد الألفية الثانية بتسديد الدَّين، وتحصيل فائض ماليّ مهمّ يبلغ نحو 80 مليار دولار، حيث صارت بدورها تُقرض صندوق النقد الدوليّ وبلداناً أخرى، أفريقيّة خاصّة.
صار مفهوم «التلميذ النجيب والسيئ» للتنمية الاقتصاديّة بالياً أمام صراع المصالح


تحوّلت العولمة اليوم إلى حقيقة واقعة، وأصبح العالم بفضلها في متناول اليد، ولكن بسببها فقدت أيضاً كثير من المجتمعات استقلالها الذاتيّ، فهي لها وجهان كالعُملة؛ أحدهما نافع والآخر ضارٌّ. الروح التي يجب أن نحملها تقتضي الجمع بين العولمة والمصلحة الوطنيّة، أي سَنّ سياسة خاصّة بكلّ قطاع تسمح من ناحية بالاستجابة للحاجات الاقتصاديّة والاجتماعيّة المخصوصة، وتسمح من ناحية ثانية بمعالجة نقص الخبرة والتكنولوجيا الضروريّة الذي يتطلب فتح السوق الوطنيّة. ويستوجب ذلك تشريك جميع مكوّنات المجتمع المدنيّ في اتخاذ القرارات السياسيّة والاقتصاديّة، وهو ما يمثّل في نظري أداة أساسيّة لتقليص الفروقات وتجنّب إضرار العولمة بالمجموعات الاجتماعيّة الأكثر هشاشة.

تُكرِّسين جزءاً مهمّاً من كتابك للمقاربة التاريخيّة، وتظهرين حالة بحالة أهميّة العامل الخارجيّ في إضعاف بلدان المنطقة ونموّها الاقتصاديّ. في هذا السياق، حالة إيران شديدة الرمزيّة، من حصار النفط إلى «عمليّة أجاكس» والانقلاب على رئيس الوزراء محمد مصدّق بداية الخمسينيات نتيجة قرار تأميم الموارد الطبيعيّة، وصولاً إلى صعوبات استغلال حقل غاز الشمال (حقل فارس الجنوبي) الذي تتشاركه مع قطر بسبب الحظر الغربيّ الذي يمنعها من تطوير الاستثمارات والشراكات لتصدير غازها. أنت تسلمين بثقل علاقات القوّة واستراتيجيّات زعزعة الاستقرار في عمليات تقييد التنمية، ولكن عندما تؤكدين أنّ «وحدها الإمارات العربيّة المتحدة والبحرين وقطر نجحت في الانتقال من التبرير إلى واقع ما بعد نفطيّ بفضل دعم السياحة وبيئة التنمية»، فإنّك تشيرين إلى بلدان تقيم شراكات مميّزة مع الغرب، وتستفيد من استثمارات رساميل أجنبيّة مهمّة، أليس الأمر غير مرتبط إذاً بـ«الحوكمة الجيّدة» والإطار التحفيزيّ بقدر ارتباطه بالخيارات الاستراتيجيّة والسياسيّة التي تحدّد في النهاية من هم تلاميذ التنمية النجباء؟

بصرف النظر عن مفهومَي «التلاميذ النجباء» و«التلاميذ السيئين» للتنمية، اللذَين بموجبهما يُحدَّد الذين حققوا الانفتاحات، الإقليميّة والعالميّة، وأكبر مكاسب اقتصاديّة، والآخرون الذين اختاروا الانكفاء وانتهى بهم الأمر للأسف إلى إثارة غضب القوى الكبرى، مثلما كانت حال إيران والعراق ومن بعدها ليبيا، إذ يوجد ارتباط بين السياسة الاقتصاديّة الوطنيّة والسياسة الخارجيّة. لكن في حالة الدول العربيّة، قد يبدو الأمر ملتبساً ومعقداً أحياناً بالنظر إلى الروابط التاريخيّة التي تربطها بالقوى الاستعماريّة، وبالتحديد الولايات المتحدة، التي تدين لها بأمنها الداخليّ والخارجيّ.
سأبدأ بالإمارات وقطر والبحرين. تبنت هذه البلدان الثلاثة استراتيجيّات تنويع اقتصاديّ مدروسة للغاية... استقرارها الاقتصاديّ والأمنيّ يعود إلى ارتباطها الوثيق بالولايات المتحدة، بفضل القواعد العسكريّة والبحريّة الأميركيّة الحاضرة في كلّ منها التي تسمح للحكام الأميركيّين بتثبيت سيطرتهم أو حتى تدخلهم في البلدان المجاورة عندما يبدو ذلك ضروريّاً. لذلك، يرتبط الازدهار الاقتصاديّ والأمن الداخليّ لهذه البلدان الخليجيّة بسياستها الخارجيّة تجاه الولايات المتحدة وحلفائها أو أعدائها (إسرائيل/إيران).
أما في ما يخصّ حالة إيران، فتوجد مرحلتان في تاريخها: ما قبل الثورة وما بعد الثورة الإسلاميّة في 1979. خلال حكم الشاه، كان التطوّر الاقتصاديّ ملحوظاً بفضل الامتيازات الممنوحة للأميركيّين والبريطانيّين، خاصّة في المجال البتروليّ. في 1951، عندما قرّر مصدّق تأميم قطاع المحروقات وإنهاء الرسوم الزهيدة التي تدفعها شركة النفط الأنغلو إيرانيّة، انقلب عليه الأميركيّون والبريطانيّون في إطار «عمليّة أجاكس». بدأت مع عودة الشاه في 1953 حقبة أخرى من التحالف بين إيران والغربيّين حتى 1979، عندما وصل إلى السلطة آية الله الخميني الذي بدأ خطابه في رفض الولايات المتحدة (التي يسميها الشيطان الأكبر) وسعى إلى تصدير الثورة في كامل المنطقة. أعلن الخميني أيضاً حرباً ضمنيّة على إسرائيل التي عدّها امتداداً للحضور الأميركيّ في المنطقة.
وعلى خلفيّة الاختلافات الأيديولوجيّة والسياسيّة، بلغت العلاقات بين البلدين أشدها عقب قضيّة الرهائن الأميركيّين الذين احتجزتهم إيران لأشهر عدة، وقادت إلى تبني أميركا الموجات الأولى للعقوبات على إيران وتجميد أصولها الماليّة في نيسان/أفريل 1980، ثمّ في 1995 بحظر أيّ تبادل مع إيران في قطاع المحروقات، وأخيراً في 2005 بعد اكتشاف تطويرها برنامجاً نوويّاً مُفترضاً، يعني ذلك إذاً سنوات طويلة من الحصار الذي كلّف الاقتصاد الإيرانيّ غاليّاً. وبالتأكيد، يؤدي العامل الجيواستراتيجيّ دوراً محوريّاً في مطابقة السياسة الخارجيّة مع سياسة أميركا، فيما تؤدي السيطرة على الموارد الطبيعيّة والطرق البحريّة لشحن الغاز والبترول إلى خلخلة موازين القوى بين القوى الشرق أوسطيّة والقوى الغربيّة.
ليس بعيداً عن الحالة الإيرانيّة، تعرّض العراق أيضاً لحصار، ثمّ وقع غزته في 2003 الولايات المتحدة على نحو غير شرعيّ، وبناءً على أسباب مشابهة لتلك المستعملة ضدّ إيران. أدى عداء صدام حسين للإمبرياليّة الغربيّة، ورغبته في إجراء التبادلات الماليّة بعملات غير الدولار، إضافة إلى طموحه إلى إرساء برنامج نوويّ، إلى إزاحته ومصادرة موارد بلاده. نظرة جورج بوش لما يُسميه «الشرق الأوسط الكبير» صارت واضحة أكثر فأكثر، وأزالت الغشاوة عن الشكل المُراد لاستراتيجيّة مكافحة الإرهاب التي بادرت بها الولايات المتحدة منذ 2001.
لذلك، صار مفهوم «التلميذ النجيب والسيئ» للتنمية الاقتصاديّة بالياً أمام صراع المصالح الذي يضع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مقابل البلدان الغربيّة أو حتى روسيا التي أعلنت عودتها بقوّة إلى المنطقة من خلال مشاركتها في الصراع السوريّ. ويُمكن أن تجد بلدان أخرى من المنطقة نفسها في قلب الرحى في الفترة القصيرة القادمة، وإن كان بعضها قد بقي بمنأى عن ذلك حتى اللحظة الراهنة، مثل تركيا وقطر.