الرباط | يمرُّ نزاع الصحراء الغربية بمنعطف دبلوماسي دقيق تجمّعت فيه معطيات عدة، هي «بِنت» الأمس القريب واليوم، وهي تنقسم إلى قسمين: سياسية وميدانية. وفي وقت كان فيه التوتر على أشده، حتى بدا أنه بلغ نقطة اللاعودة بين طرفي النزاع، جاء المستجد الأممي ليضع نقطة أخرى مؤقتة وعودة إلى سطر آخر مؤقتاً. كيف ذلك؟نزل التقرير الأخير لمجلس الأمن في نهاية شهر نيسان/ أبريل «برداً وسلاماً» على المغرب و«جبهة البوليساريو»، وهما طرفا النزاع في قضية الصحراء الغربية. هذا ما استنتجه أغلب المنشغلين والمهتمين بهذا الملف في العواصم العالمية وقبلهم الحكومة المغربية و«جبهة البوليساريو» وفي الجزائر.
التقرير الأممي السنوي كان مُنتظراً باستعجال أكثر، ربما من كل سنوات النزاع الثلاث والأربعين، وذلك نظراً إلى أجواء التوتر التي سادت في الأسابيع القليلة الماضية بين المغرب و«جبهة البوليساريو»، وأسبابه تمثلت في الاتهامات التي كالتها الرباط للجبهة بخرق اتفاق وقف إطلاق النار المُوقع بين الطرفين منذ سبع وعشرين سنة تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة. وجوهر الاتهامات أن السلطات المغربية قالت بامتلاكها حججاً دامغة عن تحركات لقوات «جبهة البوليساريو» في المنطقة العازلة، وهي عبارة عن شريط منزوع السلاح يقع قبالة الحزام العسكري الذي أنشأه الجيش المغربي أوائل عقد ثمانينيات القرن الماضي.
الرباط قالت في اتهاماتها إنّ «البوليساريو» عمدت إلى نقل مرافق عسكرية وإدارية من مدينة تندوف التي تقع جنوب غرب الجزائر وتعتبر معقلاً للجبهة إلى بلدتي بئر لحلو وتيفاريتي ونقاط أخرى مجاورة في قلب المنطقة العازلة المشمولة باتفاق وقف إطلاق النار في محاولة لنقل مركز الإدارة العسكرية والمدنية للجبهة إلى عمق المنطقة العازلة.
وتطوّر الأمر من الاتهام إلى التحرك العسكري، حيث توجهت تعزيزات عسكرية مهمة من مختلف التخصصات والثكن، عبر مدن المغرب ومناطقه، في قوافل كثيفة إلى الجنوب عند قدم الحزام العسكري قبالة المنطقة العازلة حيث بؤرة التوتر.
في تزامن مع ذلك، عممت الرباط بلاغاً موجهاً إلى منظمة الأمم المتحدة والعواصم الغربية الفاعلة في المنتديات الأممية، وبالأساس واشنطن ولندن وباريس عن عزمها لاستخدام القوة لإرغام «البوليساريو» على التراجع إلى الخلف وتحديداً إلى داخل التراب الجزائري، أي مدينة تندوف، بعيداً عن المنطقة العازلة.
الأمم المتحدة وعن طريق ستيفان دوجاريك، وهو المتحدث باسم أمينها العام، أفادت بأنه لم يتم تسجيل أي خرق لاتفاق إطلاق النار في المنطقة العازلة، وعزز دوجاريك الإفادة الأممية بما يثبتها ويتمثل في اتفاق مُلحق وُقِّع بين الطرفين برعاية أممية منذ اثنين وعشرين عاماً، نصّ على تقسيم الشريط الحدودي إلى خمسة أقسام، ضمنها المنطقة حيث توجد بلدتا بئر لحلو وتيفاريتي غير مشمولتين باتفاق وقف إطلاق النار. وهو ما جعل الأجواء تتوتر أكثر والسحب المنذرة بالحرب تتكتل. وبلغ الأمر حدّ توجيه الرباط أصابع الاتهام مباشرة إلى الجارة الجزائر باعتبارها «مسؤولة عن هذا الوضع من خلال دعم جبهة البوليساريو».
لهذه الأسباب، كان تقرير مجلس الأمن منتظراً بإلحاح أكبر من أي وقت مضى، وحين صدر أواخر نيسان/ أبريل الماضي، «نزل برداً وسلاماً».
مسألتان ضمن هذا التقرير اعتبرهما الطرفان انتصاراً لطروحاته. الأولى تتمثل في إتيانه على مسألة «تغلغل قوات البوليساريو» في بلدة الكَركَرات المتاخمة للحدود مع موريتانيا و«تجنب التصعيد في المنطقة»، وهو ما جعل الرباط تُعبّر عن «الارتياح» باعتبار أن الأمم المتحدة «أخذت مطالب المغرب مأخذ الجد». أما أسباب ارتياح «البوليساريو» لمضامين التقرير نفسه فوجدتها في التجديد لمهمة بعثة «المينورسو» (البعثة الأممية لتنظيم الاستفتاء في الصحراء الغربية) ستة أشهر فقط عوض سنة، وهو ما تعده الجبهة انتصاراً كبيراً لها كونه يشير بشكل مباشر إلى «استعجالية إيجاد حل للنزاع من خلال إبقائه مطروحاً على أجندة الأمم المتحدة وفق القرارات الأممية، أي كقضية تقرير المصير».
القراران كانا نتيجة دفوعات عضوين دائمين في مجلس الأمن هما فرنسا وروسيا، في لعبة توازن أممية لحفظ النزاع في «ثلاجة ستاتيكو» التي عمّر فيها طوال ثلاث وأربعين سنة ويتم إخراجه منها مرة كل سنة في شهر نيسان/ أبريل، ثم إعادته إليها. لكن هل هذا الوضع يمكن أن يستمر أكثر؟
يبدو أن الجواب المُطمئن بالإيجاب لم يعد متوفراً بسبب متناقضات تعتمل في ملف النزاع، منها مثلاً أن «الحل السياسي المُتوافق حوله بين الطرفين» لم يعد متيسراً بسبب رفض الرباط الجلوس إلى طاولة مفاوضات مباشرة برعاية أممية، كما كان يحدث من قبل على مدى العقود الأربعة الماضية، حيث تصرّ الرباط على أن يكون مشروع مقترحها للحكم الذاتي «تحت السيادة المغربية» هو محور المفاوضات وباعتباره «السقف الأقصى لما يمكنها أن تقدمه»، في حين ترى «البوليساريو» أنّ الملف الوحيد المطروح هو «تقرير المصير» مصداقاً للحل الذي تضعه الأمم المتحدة المكلفة بإيجاد حل للنزاع منذ اندلاعه.
هكذا تَشرئِبُّ استحالة جلوس الطرفين إلى طاولة المفاوضات، وتُفتح سبلٌ أخرى تذكي التوتر بين الطرفين بعيداً عن طاولة المفاوضات، أي في نقط التماس الصحراوية وتحديداً في شريط حدودي حيث تقع الكَركَرات وبير لحلو وتيفاريتي. وما يعقِّدُ هذا الأفق أكثر هو الأخبار الأخيرة المُتداولة في الرباط وتندوف والجزائر وباقي عواصم العالم المشتغلة أو المهتمة بتطورات هذا النزاع من إقدام قيادة البعثة الأممية المكلفة بالإشراف على احترام اتفاق وقف إطلاق النار على تقليص أعداد طاقمها العسكري والمدني وإنفاقاتها بسبب تقلص الميزانية المُعتمدة.
إن ما يجعل نزاع الصحراء الغربية أكثر تعقيداً، هو أنه ترسّخ كعنصر توازن في المشهدين السياسيين في المغرب والجزائر، ولا يمكن أن يجد حله خارج هذا الإطار تحت إشراف الأمم المتحدة، وبالرغم من الجولات المكوكية لكل المبعوثين الشخصيين للأمناء العامين للأمم المتحدة منذ ثلاثة وأربعين عاماً على العاصمتين المغربية والجزائرية، إلا أن إيجاد توافق بينهما يقف أمام الاستحالة الدائمة، بسبب أن الجزائر تتشبّث بطرحها القائل إنّ طرفي النزاع هما المغرب و«البوليساريو» ولا ثالث لهما، في حين يرى المغرب أنه لولا الدعم الجزائري للجبهة لما كان هناك نزاعٌ أصلاً. وهنا استقامت العقبة الكأداء، وأقامت.