«أزمة جديدة... دبلوماسيو الفيليبين يهرّبون عاملات من الكويت». يمكن القول إن عنوان الخبر الذي «تكاثر» في بعض المواقع الإلكترونية العربية، يشبه ـــ بأبعاده التي تنطوي على تمييز عنصري وإساءة ـــ البلد الخليجي الذي شكّل أخيراً «نموذجاً» واضحاً لمفهوم العمل القسري والاستغلال. ونتيجةً للخطاب الإعلامي المتعالي الذي انتهجته الكويت، قد يُخيّل للقارئ أن «الأزمات» السابقة بين الفيليبين وهذا البلد لطالما تسبب بها الطرف الأول، علماً بأن أغلبها نشأ على خلفية تسجيل انتهاكات عدة خلال السنوات القليلة الماضية بحقّ عمال فيليبينيين، معظمها يتعلّق بضغط العمل المفرط، العنف الجسدي والجنسي والعمالة القسرية؛ ذلك أن الرواية المتداولة إعلامياً، منذ تصاعد حدة التوتر بين البلدين بعد طرد الكويت سفير الفيليبين لديها، وصولاً إلى فرض رئيس الفيليبين حظراً دائماً على سفر العمالة إلى الأولى، لطالما كانت تفتقر إلى وفرة المعلومات ودقّتها، وخصوصاً مع تداخل الأحداث والتطورات. أخيراً، تراجعت الكويت عن تصريحاتها العدائية ولهجتها حيال هذا الملف، فما الذي حدث؟فريق التدخل السريع: شرارة الأزمة
العلاقات بين البلدين شهدت تدهوراً بعد انتشار شريط فيديو، الأسبوع الماضي، لموظفين في سفارة الكويت يساعدون عاملات منازل فيليبينيات على الفرار من منازل كويتية، في مركبات تحمل لوحات دبلوماسية، بسبب سوء المعاملة، وهو ما اعتبرته الكويت انتهاكاً لسيادتها. الأزمة، التي جاءت بعد أزمات أخرى نذكرها لاحقاً، اشتعلت بشكلٍ كبير بعد إقرار السفير الفيليبيني لدى الكويت ريناتو بيدرو أوفيلا، في تصريح لصحيفة «الأنباء» الكويتية السبت الماضي، بصحة مقطع الفيديو الذي انتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي لفريق «تدخل سريع فيليبيني» يتكون من 7 أشخاص، أكد السفير أنه يتدخل «في الحالات الطارئة التي لا يمكنها انتظار مخاطبة وزارتي الداخلية والخارجية الكويتيتين»، وأنه يقوم بعمليات كهذه منذ أكثر من شهر. تصريح السفير الفيليبيني دفع بـ«الخارجية» الكويتية إلى استدعائه للمرة الثانية (استُدعي للمرة الأولى بعد أزمة سابقة نتج منها فرض حظر موقت على عمل الفيليبينيين في المنطقة)، وإبلاغه إدانتها وشجبها لتلك التصريحات، قبل أن تُقدم يوم الأربعاء على طرده، بينما استدعت سفيرها لدى مانيلا، مساعد الذويخ، للتشاور.
دوتيرتي: الوضع في الكويت كارثي (أ ف ب )

الكويت: اعتذار «دولة الموز» لا يكفي
في البداية، حاولت مانيلا تدارك الخطأ الدبلوماسي (على رغم اضطرارها إلى مساعدة عمال فيليبينيين لجأوا إليها لطلب المساعدة «في حالات كان بعضها يمثل مسألة حياة أو موت»)، من طريق تقديم اعتذار للكويت، جاء على لسان وزير الخارجية الفيليبيني آلان بيتر كايتانو. إلا أن طرد السفير زاد من حدة التوتر القائم أصلاً بين البلدين، منذ مقتل عاملة فيليبينية في شباط/ فبراير الماضي. وفيما كان مسار الأزمات السابقة يتجه إلى إمكانية التوصل إلى حل، عبر مفاوضات حول اتفاق على العمالة قد يؤدي إلى رفع الحظر الموقت، هاجمت الكويت مانيلا بخطاب عدائي نسف أي بادرة لحل مرتقب في إطار التوصل إلى اتفاق. وبدا هذا الخطاب جلياً في تغريدات النائب الكويتي، وليد الطبطبائي، تلك التي قال في إحداها: «تحمَّلنا افتراءات الرئيس الفيليبيني وتطاوله على الكويت. لكن أن يصل بسفارة دولة الفيليبين العظمى أن تنتهك سيادة دولة الكويت، وتنشئ فرق (كوماندوز) والتباهي بذلك، فهذا الأمر يجب أن يكون الرد فيه حاسماً والإجراء شديداً مع دولة الموز». وفي الإطار عينه، تحدَّثت مانيلا عن احتجاز أربعة من مواطنيها يتبعون سفارتها في الكويت شاركوا في «عملية الإنقاذ»، وإصدار مذكرات اعتقال بحق ثلاثة دبلوماسيين آخرين.


مانيلا تنتفض
في الوقت الذي أكد فيه وزير الخارجية الفيليبيني توقف المحادثات المتعلقة باتفاقية العمالة، أعلن الرئيس الفيليبيني رودريغو دوتيرتي، يوم الأحد الماضي، أن الحظر الموقت على سفر الفيليبينيين للعمل في الكويت بات دائماً. وأكد أنه سيعيد العاملات الفيليبينيات اللواتي تعرَّضن لسوء المعاملة إلى البلاد، فيما دعا الراغبات في البقاء في البلد الخليجي إلى العودة.
أبرز ما قاله دوتيرتي:
الوضع في الكويت كارثي
سيبقى الحظر دائماً. لن تجرى عمليات توظيف وخصوصاً للعمالة المنزلية
دوتيرتي للعاملين في الكويت: عودوا إلى دياركم. بغض النظر عن فقرنا، سنعيش. الاقتصاد بوضع جيد ولدينا نقص في العمالة
بإمكان العمال العائدين من الكويت الحصول على وظائف كمدرسين في الصين
لا نسعى إلى الانتقام من الكويت ولا نحمل أي كراهية تجاه البلد
إذا كان شعبي يشكّل عبئاً على بعضهم وعلى بعض الحكومات التي يتعين عليها حمايتهم والحفاظ على حقوقهم، فسنقوم نحن بما ينبغي علينا فعله

ثغرات قانونية؟

على رغم «بادرة» إقراره، لم يقدم قانون العمالة المنزلية في الكويت آليات إنفاذ، كتفتيش أمكنة العمل. وفي حين أنه يحظر على أصحاب العمل مصادرة جوازات سفر العمال أو الاعتداء عليهم، لم يحدد القانون الجديد أي عقوبات، كما لم يتضمن الحق في تشكيل النقابات. وافتقر كذلك إلى قضايا أساسية أخرى حول الحماية، موجودة في قانون العمل العام، مثل العمل لثماني ساعات في اليوم، والحصول على ساعة راحة كل 5 ساعات عمل، وأحكام تفصيلية حول الإجازات المرضية، بما فيها الحصول على 15 يوماً إجازة مدفوعة الأجر.


الكويت تتراجع: مخاوف اقتصادية؟
عشية الأول من أيار/ مايو، عيد العمال العالمي، وفي ضوء إعلان الرئيس الفيليبيني حظر إرسال العمالة إلى الكويت، أعلن مساعد وزير الخارجية لشؤون التنمية والتعاون الدولي، السفير ناصر الصبيح، أن بلاده ترغب في التوصل إلى حل لما وصفه بـ«سوء الفهم والتضخيم والمبالغة لبعض الأحداث البسيطة أو الفردية» مع الفيليبين، بشكلٍ يرضي الطرفين. وقررت الحكومة الكويتية، تالياً، اتخاذ «الإجراءات اللازمة انطلاقاً من الحرص على العلاقات بين البلدين»، وتشكيل وفد برئاسة وزير الشؤون الاجتماعية والعمل، وعضوية وزارات الداخلية والخارجية والصحة والتجارة «لاستطلاع التعاون مع بعض الدول الصديقة للتوصل إلى أفضل الحلول لاستقدام العمالة المنزلية». التحول المفاجئ في خطاب الكويت التصعيدي بدا لافتاً، وخصوصاً لناحية تزامنه مع بروز مخاوف من تداعيات وقف تدفق العمالة الفيليبينية إلى سوق العمل الكويتية، على قطاعات اقتصادية عدة لطالما تركزت هذه العمالة فيها، علماً بأن سوق العمل الكويتية يعمل فيها 242 ألف فيليبيني، نحو 77 ألفاً منهم يعملون في القطاع الخاص، بينما يعمل المتبقي منهم، وعددهم 165 ألفاً، في العمالة المنزلية (99% منهم نساء). ووفقاً لما تشير إليه بيانات الإدارة المركزية للإحصاء الكويتية، فإن الحظر الفيليبيني وخسارة هذه العمالة سيشكلان ضربة أخرى لشركات القطاع الخاص الكويتية، وخصوصاً في قطاع التجزئة الذي يعدّ نموه جيداً مقارنة بباقي القطاعات، نظراً إلى الدخل العالي للمواطن الكويتي وإنفاقه المرتفع على السلع والخدمات.

شقيقة الضحية جوانا ديمافيليس التي قُتلت في الكويت (أ ف ب )

حادثة «الفريزر»
الجدل حول وضع العمال الفيليبينيين في الكويت بدأ بعد انتشار تقارير مطلع العام الحالي، تفيد بانتحار 7 عاملات فيليبينيات، رحلن للعمل في الدولة الخليجية عام 2016، بسبب سوء معاملة أصحاب العمل الكويتيين. إلا أن الوضع سرعان ما تفجّر حين تم العثور في شباط/ فبراير الماضي على جثة العاملة جوانا ديمافيليس (29 سنة) في ثلاجة شقة رب عملها، ما دفع بالرئيس الفيليبيني إلى منع مواطنيه من التوجه للعمل في الكويت، متحدثاً في حينه عن تجاوزات كبرى بحقّ عاملات المنازل. كما أصدر، في حينه، أوامر لوزارة العمل في بلاده بوقف إرسال العمالة إلى هناك، وطلب من مواطنيه الذين يعملون في دولة الكويت مغادرتها مجاناً، عبر التواصل مع الخطوط الجوية الفيليبينية. لاحقاً، قضت محكمة كويتية غيابياً بإعدام رجل لبناني وزوجته السورية بعد إدانتهما بقتل العاملة. لكن العمال الفيليبينيين في الكويت، الذين تقدر أعدادهم بنحو 250 ألفاً، يضعون جانباً مخاوفهم من أن يلقوا مصيراً مشابهاً، أو أن يتعرضوا لسوء معاملة، خوفاً من خسارة وظائف تشكل مصدر دخل رئيسي لعائلاتهم في بلدهم الأم.

العودة إلى البداية
بين عامي 2015 و2016، وثَّقت منظمة «هيومن رايتس ووتش» ومنظمات حقوقية أخرى إساءة معاملة واسعة النطاق للعاملات المغتربات والعمال الأجانب الآخرين «القادمين من الدول النامية» في بعض الدول الخليجية، بما في ذلك تعرضهم للاعتداء الجنسي ومصادرة جوازات سفرهم. ما يمكن تأكيده هو أن الحديث عن العمالة المنزلية طاول خلال السنوات الماضية السعودية وقطر على وجه الخصوص، حيث انتقدت منظمات حقوقية ظروف العمل السيئة التي يتعرَّض لها قسم كبير من العاملين في قطاع العمالة المنزلية في هذين البلدين على أيدي أرباب عملهم. بيدَ أن الكويت، التي يوجد فيها نحو 276 ألف عامل فيليبيني، لم تنَل حصّتها من الانتقاد حتى عام 2015، وهو تاريخ استصدار قانون جديد أعطى عاملات (وعمال) المنازل حقوقاً عمالية للمرة الأولى، بينها الحق في يوم راحة أسبوعي، 30 يوم إجازة سنوية مدفوعة الأجر، العمل 12 ساعة يومياً مع استراحة، وتعويض نهاية خدمة مقداره راتب شهر لقاء كل سنة عمل في نهاية العقد. إذ إن تقرير «رايتس ووتش» انتقد حينها عدم وضوح صيغة القانون في نواحٍ عدة، فضلاً عن تغاضي الحكومة الكويتية عن أحكام تفصيلية حول الإجازات، في حين تواصلت التقارير التي تتحدث عن إساءة معاملة واستغلال عمال المنازل وحجب رواتبهم والاعتداء الجسدي والجنسي.

نظام الكفالة: تكريس للاستغلال
يكرس نظام «الكفالة» استغلال العمال ونهب حقوقهم، لأنه يمنعهم من تغيير العمل أو مغادرة البلد من دون إذن رب العمل. وعلى رغم أن قانون العمل في الكويت يحدد ساعات العمل ويلزم أرباب العمل بأجور معقولة وبظروف إقامة جيدة، إضافة إلى الرعاية الصحية للعمال، إلا أن هذه القوانين لا تُحترم ولا تتم مراقبة تطبيقها من قبل السلطات إلا نادراً.

جانب من المسيرة الحاشدة للنقابات العمّالية في الفلبين أمس (أ ف ب )