على امتداد الأسبوعين الأخيرين، فقدت سلطات شرق ليبيا، التي تتكون من برلمان منتخب وحكومة غير معترف بها دوليّاً، الكثير من صدقيّتها. بدايةً مع تشبّث رموزها بإنكار تدهور حالة خليفة حفتر، الصحيّة، والادعاء بأنّه في زيارة لفرنسا بدعوة من رئيسها إيمانويل ماكرون، ثم بإنكار حالة الانقسام الداخليّ بشأن تدبير الشؤون العسكريّة وعدم طرح مسألة خلافة الجنرال القويّ.الأوضاع الحقيقيّة باتت اليوم واضحة إلى مدى كبير، فوضع حفتر الصحيّ متعكّر إلى درجة لا تسمح له بالظهور علناً أو بتولي زمام القيادة مرّة أخرى، وهذا متأتّ على الأغلب من «سرطان في الرئة تمدد تدريجياً ليسبب تلفاً دماغيّاً»، كما تنقل عدة مصادر، فيما مسألة الخلافة مطروحة بقوّة، وهي تدار بحسابات داخليّة تشمل التوازنات الجهويّة والقبائليّة، وتوازنات إقليميّة ضمن دول المحور الداعمة لحفتر، أي بالخصوص الإمارات ومصر، وأخرى دوليّة تحوي فرنسا، وبدرجة أقلّ إيطاليا والولايات المتحدة.
وحول تحديد شخصيّة «الخليفة» المحتمل، استجدت في اليومين الماضيين تطورات مؤثرة في الملف. فبعد محاولة اغتيال رئيس أركان قوات حفتر، عبد الرزاق الناظوري، في مدينة بنغازي يوم الأربعاء الماضي، وهي عملية يُرجّح البعض أنها تندرج ضمن مسار «حرب الخلافة»، سرت تقارير تشير إلى تفضيل الأطراف الفاعلة في الملف لشخصيّة عبد السلام الحاسي، آمر غرفة «عملية الكرامة». وفي حديث إلى «الأخبار»، يتّفق الباحث في الشأن الليبيّ جلال حرشاوي، مع هذا التحليل، إذ إنّه يستبعد إمكانيّة «تسيّد الناظوري للمشهد» على اعتبار أنّه «بقي لمدة طويلة خارج سلسلة قيادة القوات المسلحة الليبيّة، من دون أن تكون له سلطة على السلاح أو على تشكيلات مسلحة ترجع إليه». أما بالنسبة إلى الحاسي، فيعتبر حرشاوي أنّ للرجل «خبرة أكبر على المستوى الدوليّ، إذ تعرفه كثير من الدول (كانت) قد تعاملت معه في الماضي، ومن بينها الولايات المتحدة»، مضيفاً أنّه «يحظى بالاحترام، وهو متكتّم وله خبرة كبيرة في قيادة عمليّة الكرامة، وقد أمضى قبل ذلك مسيرة طويلة كشخصيّة عسكريّة».
بعد الإمارات ومصر، توجه صالح إلى الرباط مساء أمس


من جهة أخرى، يشير الباحث الليبيّ بشير الزواوي، إلى أنّ «الآليات القبليّة ليست مؤثرة جداً في حلّ التوتر المتصاعد، كما لا نعلم الآن الكثير عن نجلَي حفتر وعن السلطة التي يحظيان بها، لكنهما يفتقران إلى المظلّة القبليّة لأنّ قبيلة الفرجان التي ينتميان إليها ليست في الأصل من إقليم برقة (شرق البلاد) وليس لديها سلطة لتفرضها». ويذهب الزواوي إلى أنّ رئيس البرلمان عقيلة صالح «لديه ما يكفي من السلطة ليفرض الاستقرار». جدير بالذكر أنّ الأخير كان من المتوقع وصوله مساء أمس، إلى المغرب، في زيارة «تلبي دعوة رسمية لرئيس البرلمان المغربي»، لكن من المفترض أن يجتمع هناك برئيس المجلس الأعلى للدولة (سلطات غرب ليبيا) خالد المشري (ينتمي إلى جماعة الإخوان، وكان بعد تأكد خبر مرض حفتر قد طرح مبادرة للحل). وقبيل زيارة المغرب، كان صالح قد زار كلاً من الإمارات ومصر.
هذه التطورات تتواصل، في وقت ظهر فيه مؤشر مهم في مدينة بنغازي أمس، وهي المعقل الرمزي لحفتر، تمثل في اندلاع اشتباكات مسلحة بين عناصر من «كتيبة شهداء الزاوية» وأخرى من «جهاز البحث الجنائيّ» (الاثنان يتبعان فريق حفتر). كما راجت أخبار عن هجوم موازٍ لعناصر من «كتيبة شهداء الزاوية» ضد دوريّة من «أمن النجدة» أدت إلى «مقتل عنصرين من الأمن». وتعود أسباب هذه التطورات إلى تجاذبات شخصيّة تطورت لتشمل تشكيلات تعمل تحت قيادة واحدة وضمن تكتّل ومشروع عسكريّ واحد.
درنة والجنوب:

سيادة الشكّ
رغم الحملة المكثّفة التي تقودها منذ أشهر سلطة الشرق، العسكريّة والسياسيّة، بغية «تحرير مدينة درنة من الإرهاب»، فإنّ التقدم لا يزال بطيئاً. تعليقاً على التطورات الأخيرة في ملف المدينة، التي للإشارة يسيطر عليها «مجلس شورى مجاهدي درنة»، يقول بشير الزواوي لـ«الأخبار» إنّ العمليّة «تبدو الآن مؤجلة، حيث لا توجد إرادة حقيقيّة لبدء حرب، ولا أعتقد أنّنا سنشاهد قريباً اشتباكات عنيفة». ويضيف: «توجد الآن جهود من جهات مختلفة لحثّ القبائل المجاورة لدرنة على عدم القتال إلى جانب قوات حفتر، وربما يقود غياب الرجل إلى تأخير العمليّة، لكن لا يمكن تجاهل عدم استعداد القبائل للقتال، إضافة إلى العجز الواضح على جمعها وإقناعها بالأمر هي والجمهور الواسع في بنغازي».
وضع درنة، وسيادة الشكّ حول مصيرها، لا يختلف كثيراً عما يحصل في جنوب البلاد. فإلى جانب البيان الذي صدر الأسبوع الماضي عن الحاكم العسكريّ لمدينة الكفرة، أهم التجمعات في الجنوب الشرقيّ، الذي يدعو فيه الأجانب لمغادرة المدينة في ظرف أسبوع، ما يشي باحتمال وقوع عمليات أو مواجهات عسكريّة قريباً، عادت الاشتباكات إلى مدينة سبها، وهي أهم التجمعات في الجنوب الغربيّ.
في حديث إلى «الأخبار»، يقول الباحث في قضايا الجنوب الليبيّ خالد وهلي، إنّ الاشتباكات عادت بسبب «مقتل شاب من قبيلة التبو على يد قوات اللواء السادس الذي ينتمي جلّ أفراده إلى قبيلة أولاد سليمان، وبما أنّ اللواء موجود في منطقة سكنيّة، طلب أعيان وحكماء التبو خروج أفراده وهدم المعسكر، لكن قبيلة أولاد سليمان رفضت الأمر بحجّة أنهم ليسوا مسؤولين عن اللواء التابع للدولة». وعن الوضع الحاليّ في المدينة، يقول وهلي إنّ «الطريق الرئيسيّ فيها لا يزال مغلقاً بسبب تمركز قناصة من اللواء السادس به، وتحدث بين الفينة والأخرى اشتباكات متقطّعة في بعض الأماكن». وللإشارة، يأتي هذا التصعيد بعد اجتماع عُقد قبل عشرة أيام في نيامي، عاصمة النيجر، جمع بين القبيلتين المتنازعين، إضافة إلى الطوارق ومتابعين من الأمم المتحدة، وكان بترتيب منظّمة فرنسيّة.
ويرى وهلي أنّ الاجتماع كان «عاماً وتقابلياً، توصّل إلى نقاط عامّة لوقف القتال، لكن لا أعتقد أنّ له نتيجة على الأرض». وقد عكرت تدخلات سلطة الشرق الوضع في المدينة: إضافة إلى أنّها أدرجتها في حملة «فرض القانون» في الجنوب التي أطلقتها الشهر الماضي، فهي عيّنت هذا الشهر حاكماً عسكريّاً لها، كما استقطبت ولاء اللواء السادس الذي هو بدوره جزء من النزاع القبليّ، فيما يبقى الهيكل الوحيد الفاعل في فضّ النزاع سلميّاً خارج مجال السلطات، وهو «مجلس أعيان وحكماء فزّان (إقليم الجنوب الغربي)».