تضرب مدينة حلب جذورها بعيداً في التاريخ، ويطيب لقسم كبير من أبنائها التغنّي بأنّها واحدة من أقدم المدن المأهولة في حياة البشريّة. يعود أقدم ذكر للمدينة إلى العام 2530 ق. م.، حين استولى «ريموش الأكادي بن سرجون» عليها وأسر ملكها «لوكال» (ما يعني أنّها كانت موجودة قبل ذلك التاريخ بطبيعة الحال). تربط بعض المرويّات تسمية حلب بالنبي إبراهيم الخليل، من دون وجود قرينة علميّة (لم يُشر اكتشافٌ علميّ حتى اليوم إلى وجود النبي إبراهيم نفسه). ليس القصد من وجهة النظر هذه الخوض في مباحث تاريخيّة فهو أمرٌ له أهله، لكن الهدف إثارة قضيّة شائكة تحتاج إلى جهود متخصّصة للمضي فيها، وطرح تساؤلات قد تحفّز بعض أهل الاختصاص في السعي إلى إجابات عنها. محور هذه التساؤلات هو «الأديان التوحيديّة» في حلب، لا سيّما «السماويّة» منها. وفي حين تحضر اثنتان من الديانات الثلاث الكبرى «الإسلام والمسيحية» في حاضر المدينة، تبرز اليهودية في ماضيها القريب (والبعيد طبعاً). لكن ما يبدو غريباً أن تخلو كل المراجع من أي ذكر يشير إلى وجود «الأحناف» في حلب عبر التاريخ على رغم الروايات التي تؤكد أن إبراهيم قد سكنها، والأغرب من ذلك أن ينعدم وجود أي أثرٍ يدلّ على الصابئة تحديداً (فهي ديانة ما زالت حاضرة إلى اليوم في العالم، ولو قلّ معتنقوها). كانت مدينة «حرّان» أحد أهم معاقل الصابئة عبر التاريخ (تبعد عن حلب نحو 170 كلم)، وتذهب بعض المصادر إلى أنّ حلب هي نفسها «صوبا أو صوبه» وقد ورد اسم صوبا في الأسفار اليهودية أحد عشر مرة، ورجّحت «دائرة المعارف الإسلامية» أن تكون «آرام صوبا المذكورة في العهد القديم هي نفسها حلب»، فيما يرى خير الدين الأسدي أنّ «أصح الآراء هو أن صوبا تقع جنوب حماة، والوثائق تدعم ذلك».
ثمة دراسات كثيرة تربط بين الصابئة وبين بعض الممالك الآرامية، ويشكل اسم «صوبا» إغراءً خاصّاً في هذا الإطار. كذلك؛ تربط بعض المراجع بين الصابئة وبين النبي إدريس، ومن المؤكّد أن النبيّ يحيى بن زكريّا يعدّ أحد أعمدة هذه الديانة. تحكي بعض الروايات عن وجود أثرٍ لرأس النبي يحيى في قلعة حلب، فيما يضم المسجد الأموي في حلب مقاماً للنبي زكريّا، وعلى رغم هذا تخلو المدينة من أي أثر لمعبد صابئي أو إشارة إليه حتى. فإذا وقفنا عند بعض رموز المتصوّفة الذين اهتموا بحلب، برز لنا أولاً شهاب الدين السهروردي، الذي اختارها من دون سواها ليُنظّر فيها لمذهب «الإشراق»، ودفع حياته ثمناً لذلك بعد أن صدر حكمٌ بإعدامه. ثمة تلاقٍ في كثير من النقاط بين المذهب الإشراقي وبين الصابئية، لا سيّما ما يتصّل بالحكمة وإعلاء شأن أفلاطون. ولأسباب مشابهة حُكم على الشاعر المتصوف عماد الدين النسيمي بالسلخ حيّاً في حلب التي قصدها من دون غيرها.
واهتمّ الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في الإقامة سنوات في حلب، قبل أن يعود إلى دمشق ليقضي أواخر حياته فيها (يلقّب ابن عربي بـ«ابن أفلاطون»). يقود ذلك إلى التساؤل عن مفارقة غريبة، إذ تكاد تخلو حلب من أي أثر يدل على الحقبة الإغريقية فيها (على رغم عدم الجزم بدخول الإسكندر المقدوني إلى حلب، فإنها وقعت حتماً تحت حكم السلوقيين اليونانيين). في خلال زيارة رفقة الباحث علاء السيد إلى موقع «باب النصر» التاريخي قمتُ بطرح هذه التساؤلات، ليشير السيد إلى النقش الإغريقي على حجر في الباب. قاد التداعي في النقاش إلى ذكر معابد الصابئة المندائيين وبعض صفاتها، ومع إشارتي إلى أن مدخل المعبد الصابئي لا بدّ أن يحوي سهم دلالة يشير إلى نجم القطب هتف السيد مستغرباً «الفتحة المضلّعة التي عثرنا عليه أسفل باب النصر تشير إلى تلك الجهة».
هل يعني كلّ ما تقدّم شيئاً؟ ربما، وربّما لا، ولا شك في أن القول الفصل يحتاج جهوداً كبيرة من البحث والتقصّي والتنقيب. وإذا ما كان «الخيط» موجوداً بالفعل، فربما كان رأسه في «باب النصر» الذي كان يسمى «باب اليهود». اليهود الذين اهتموا بحلب بشكل خاص، وحاول الظاهر غازي أن يلغي الاقتران بينهم وبين الباب، فهل سبقوه إلى محاولة مشابهة قاموا بها تجاه الصابئة؟ وهل يمكن ردّ خلو المدينة من آثار الأخيرين إلى الصراع الذي دار عبر التاريخ بين «أتباع الديانات السماوية»؟