تجاوز وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، كل السقوف في اندفاعه نحو الأحضان الصهيونية، وتجلى ذلك في أنه لم يتحدث بمنطق تبريري للعلاقات مع إسرائيل من زاوية موازين القوى والظروف السياسية، كما هي عادة مبرري أنصار التسوية، بل انتقل إلى ما لم يستطع «أبطال أوسلو» أنفسهم، بلوغه، عبر الحديث عن الحق الصهيوني بأرض فلسطين. ويكشف اختيار ابن سلمان للكلمات التي عبّر من خلالها عن موقفه أنه تعمد الحديث عن هذا «الحق» المزعوم. ولمن لا يعلم، ما نطق به ابن سلمان، يأتي تلبية لأحد المطالب الأساسية لمعسكر اليمين الإسرائيلي، وهو ما لم يستطع رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، الموافقة عليه. فما تحدث عنه ابن سلمان، يتجاوز في أهميته ورسائله، الاعتراف بإسرائيل دولةً. وهكذا يكون ولي العهد السعودي أول زعيم عربي يمنح الصهاينة الحق بأرض فلسطين. وهو أخطر ما يمكن أن يصدر عن جهة عربية. فمن لوازم هذا المنطق أن الصهاينة «عادوا» إلى فلسطين كي يحرروا وطنهم من الفلسطينيين المحتلين، وأنهم ليسوا إلا حركة تحرر وطني، في مقابل مستوطنين فلسطينيين. ويعني ذلك أيضاً أن الشعب الفلسطيني كان المعتدي، فيما الصهاينة المغلوب على أمرهم كانوا ضحايا. ومن المتوقع لاحقاً أن ينبري «وعاظ السلاطين» الذين جلّ دورهم منح الغطاء الشرعي لمواقف أولياء نعمتهم، عبر الحديث عن الوجود اليهودي في فلسطين قبل آلاف السنين، وتجاهل ملايين من الشعب الفلسطيني المشرد في الجهات الأربع من العالم، وملايين آخرين يقبعون تحت الاحتلال والحصار والقمع.في ضوء ذلك، كان من الطبيعي أن تحضر هذه الأبعاد لدى المعلقين الصهاينة في العديد من وسائل الإعلام، من ضمنهم صحيفة «هآرتس» التي لفت معلقها للشؤون العربية تسافي برئيل، إلى أنه «بعد مئة عام من وعد بلفور، يأتي ملك سعودي ويصوغ حق اليهود بدولة بنفس الكلمات تقريباً»، وهكذا يكون ولي العهد السعودي قد استحق لقب «بلفور ابن سلمان». ورأى برئيل أن «الصحيح هو أن الأمير لم يستخدم، ولو مرة واحدة، كلمة (دولة)، بل كلمتي (البلاد) و(الأمة)». في المقابل، يمكن القول إن ذلك كان لمصلحة الاعتراف بـ«الحقوق» التي تشكل ركيزة الخطاب الأيديولوجي والسياسي للحركة الصهيونية، والقادة الإسرائيليين.
مع ذلك، فإن الرسائل التي ينطوي عليها توقيت موقف ابن سلمان، لا تقل أهمية عن مضمونه الخطير جداً على القضية الفلسطينية ومستقبل الشعب الفلسطيني. فهو أتى بعد إعلان ترامب عن القدس عاصمة لإسرائيل، وفي ظل الصمود الفلسطيني بمواجهة الضغوط الأميركية والإسرائيلية وبعض العربية، من أجل الخضوع للإملاءات الأميركية، وفي أجواء التمهيد لطرح صفقة القرن... وهو ما يشير إلى كونه محطة تمهيدية لن يطول الوقت حتى نشهد ما يليها على المستويين الإقليمي والعربي الخليجي. هذا فضلاً عن أصداء هذا الموقف على المستوى الداخلي الإسرائيلي، وتحديداً لدى معسكر اليمين.
مرة أخرى، يتضح كم أنّ للنظام السعودي دوراً عميقاً في مخطط تصفية القضية الفلسطينية. ويكشف معه أيضاً، أنّ تسلسل الأحداث منذ إعلان ترامب عن القدس، يأتي في سياق تدرجي يهدف إلى شرعنة الوقائع التي فرضها الاحتلال منذ عام 1948، والقفز إلى مرحلة جديدة من التحالف العلني بين إسرائيل والسعودية. وتؤكد المواقف والخطوات السعودية المتوالية أنها تجاوزت من الناحية العملية شرط ربط هذا المسار بما تضمنته المبادرة العربية.
ويبرز الموقف السعودي كعملية التفاف على الرفض الفلسطيني للقبول بالسقف الجديد الذي تمليه إدارة ترامب، بالتناغم مع حكومة اليمين الإسرائيلي، وينطوي على رسالة صريحة لكل الشعب الفلسطيني، بكافة فصائله المقاومة والتسووية، أنه معكم ومن دونكم تتجه الرياض لنسج العلاقات والتحالفات مع إسرائيل، وأن ابن سلمان لن يقبل بأن يكونوا عقبة أمام طموحاته في الداخل السعودي، وأمام تأدية دوره الوظيفي بما يتلاءم مع متطلبات السياسة الأميركية في المنطقة. وبالقياس إلى كل الخطوات التمهيدية السابقة، تشكّل مواقف ابن سلمان مرحلة الذروة التي تستوجب أن تكون تمهيداً مباشراً لخطوات مفصلية لاحقة. وبات من نافلة القول أن كل هذا المسار مرتبط عضوياً بمخطط «صفقة القرن»، ولم يكن صدفة أن يحصر ابن سلمان كلامه بالمسجد الأقصى من دون القدس التي بعد قرار ترامب، في رسالة تنطوي على التسليم بإعلان ترامب الذي هدف أيضاً إلى حسم قضية القدس لمصلحة الاحتلال الإسرائيلي.
يمكن تسجيل إنجاز لمعسكر اليمين الإسرائيلي، وتحديداً رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي كان يرتكز في تصلبه على المسار الفلسطيني، على قناعة ورؤية مفادها أن النظام السعودي، وبقية أنظمة الاعتدال العربي تتعامل مع القضية الفلسطينية على أنها عبء لن تعدم وسيلة للتخفف منه. وعلى هذه الخلفية، في حال إصرار تل أبيب على تكريس وقائع الاحتلال والاستيطان، فإن الطرف العربي المقابل – وتحديداً النظام السعودي – سيقفز إلى مرحلة جديدة من التقارب مع إسرائيل، ولو على حساب الشعب الفلسطيني، وهو ما تحقق فعلاً. ومن أبرز النتائج الفورية لهذا التطور، أنها أثبتت للقيادة الإسرائيلية صحة خيار التشدد السياسي الذي تبنته في مواجهة الفلسطينيين، ومباركة ضمنية بمواصلة ارتكاب المجازر بحق الشعب الفلسطيني، ورسالة صريحة بأنّه لن يترتب عن هذا الخيار السياسي والأمني الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، أي نتائج وتداعيات تفرمل أو حتى تؤجل الاندفاع السعودي إلى الاحضان الإسرائيلية. وهكذا يكون ابن سلمان قد استطاع أن يتجاوز أحلام حتى المؤسسين الأوائل للكيان الإسرائيلي، وعلى رأسهم مؤسس دولة إسرائيل، ديفيد بن غوريون، بل حتى مؤسس الحركة التصحيحية في الحركة الصهيونية فلاديمير جابوتنسكي (مؤسس التيار اليميني)، بعدما تجاوز في استعداده للاعتراف بإسرائيل، استناداً إلى مبررات مزعومة تتصل بموازين القوى والظروف الدولية والاقليمية، إلى إضفاء صفة «الشرعية العربية» على السردية الصهيونية المتصلة بتاريخ فلسطين وحاضرهم.