دمشق | تناقضاتٌ كثيرةٌ تملأ المكان الذي غص بالوجوه المتعبة من سنوات الحرب، تلك الوجوه التي حملت معها قصصاً مأسوية من الغوطة، قصص قهر وظلم، وبعض الذكريات الجميلة. حطّوا رحالهم في أرض لا يعرفونها، وبالكاد تؤمن لهم مستلزمات الحياة الأساسية، بعدما عاشوا في زمان ومكان دفعوا فيه كل شيء مقابل لقمة العيش. يضعون على جراحهم ملحاً، ويبحثون عن الأمل في كومة المصاعب التي مرّوا بها والتي تنتظرهم في قادم الأيام. يسعون للحصول على الأفضل، رغم كل الظروف، وكل ما يريدونه في نهاية المطاف العودة إلى الديار.
بسمة ودمعة
البسمة لا تفارق وجه أم عمار، السيدة الخمسينية. هي تحمد الله بين كل عبارة وأخرى، وتشكر من حولها من الشبان المتطوعين الذين، رغم قلة عددهم، مقارنة بأعداد الأهالي الموجودين، يعملون كخلية نحل، مع أنها لا تعرف إلى أي جهة ينتمون. تحاول التخفيف عن النسوة الموجودات معها في مركز الإيواء وتشجعهن على تحمل الظروف الحالية، تتذكر «أيام العز» في حمورية قبل الحرب، وتقول: «ستعود تلك الأيام مهما طال الزمن، تحمّلنا الكثير من الآلام خلال الحصار في الغوطة، وسنكون قادرين على تحمل صعوبة الحياة هنا، هي فترة مؤقتة وسيعود كل منا إلى بلده». توضح أم عمار، بصوتها الخافت وعيونها اللامعة، أن الطعام في المركز متوفر، لكنه قليل، والحمامات موجودة وإن كانت مزدحمة وقليلة النظافة أحياناً، وتضيف: «يجب أن نتعاون معاً لتجاوز هذه المحنة، نجونا من الموت بأعجوبة، وهذه فرصة جديدة للحياة سنعيشها شاكرين كل من ساعدنا ولو بكلمة، الحكومة لم تقصر معنا، لكن أعدادنا كبيرة، وبالتالي الجهود المبذولة لا تظهر كثيراً». على العكس، تجلس نجاة، الأم لأربعة أطفال، على «بطانية» المعونات المخصصة لها. يلتمّ أطفالها حولها حفاة الأرجل، تنهمر دموعها على بشرتها السمراء، وتشيح بوجهها رافضة الحديث، وكل من حولها في البداية، قبل أن تقول بغصة: «هذه ليست عيشتنا. نحن أولاد تجار، كيف نقبل أن نأكل فتات الطعام وننام على الأرض أمام الناس». تبكي بحرقة وتدمع عيون أولادها أيضاً، وتقول بصوت مكسور: «نريد فقط أن نخرج من هنا ونعود إلى بيتنا».

أمنيات الخروج
الحديث عن الخروج من مركز الإيواء أهم المواضيع التي يتداولها معظم الموجودين. كلما مرّ من أمامهم زائر جديد (متطوع، صحافي، طبيب...)، يلحّون عليه لمعرفة جواب عن سؤالين؛ الأول: متى سيخرجون من المركز؟ والثاني: متى سيعودون إلى ديارهم؟ ومع وجود جواب شبه واضح عن السؤال الأول من منسقي المراكز التابعين لوزارة الشؤون الاجتماعية؛ بأن خروج الأطفال والنساء يجوز بوجود كفيل يسكن في العاصمة دمشق، على أن يكون من أحد الأقارب، أما الرجال فلن يخرجوا قبل أشهر لإتمام أوراق التسوية، تشير بعض النساء هناك إلى أن الموضوع لا يتم بهذه السهولة. فيما يبقى الجواب عن السؤال الثاني مجرد توقعات وأماني.
تفرّقت عائلات عديدة بين مراكز الإيواء المختلفة


في مركز عدرا، تنتظر بعض النساء أي كفيل للخروج من المكان. تقول إحدى السيدات: «سآخذ أولادي وأخرج عند أول فرصة، ويتبعني زوجي عندما يكون قادراً على ذلك»، بينما تصرّ أخرى على أنها لن تخرج من دون زوجها، وتقول: «سأتحمل الظروف مثلي مثله حتى تُفرج علينا معاً».
تغصّ مراكز الإيواء بأبناء الغوطة، إذ وصلت الأعداد في مركز معهد الكهرباء، قرب عدرا، إلى 12000 شخص، وفق منسق المركز محمد المصري، ويجتمع في الغرفة الواحدة نحو 8 عائلات تقريباً، حيث ينام الذكور في الممرات أو على سطح البناء، أما العائلات التي لم يحالفها الحظ بالنزول في غرف، فقد أخذت جزءاً من باحة المركز تحت سقف بلاستيكي، ويفصل بين العائلة والأخرى «بطانية». ويقول عيسى، وهو واحد من الواصلين حديثاً إلى المركز: «ننام في أي مكان لا يهم، المهم أن الدولة تؤمن لنا العلاج الطبي، فكلنا نعاني أمراضاً وإصابات وبحاجة إلى عناية». يشير أحد المتطوعين إلى أن وزارة الصحة، بالتعاون مع منظمة الهلال الأحمر السوري وعدد من الجمعيات المحلية، افتتحت أكثر من نقطة طبية في كل مركز إيواء، لتقديم الخدمات الطبية اللازمة للأهالي الموجودين بمختلف الاختصاصات، وتتولى مهمة نقل الحالات التي تستدعي دخول المشافي، بالإضافة إلى تخصيص جانب من خدماتها لتقديم العلاج والدعم النفسي من قبل مختصين.

تجار الداخل والخارج
جمعيات محلية عدة تشارك مع منظمة الهلال الأحمر السوري بتقديم الطعام لأهالي المركز، فتحصل كل عائلة على سلة غذائية من المعلبات لوجبة الإفطار مع الخبز بشكل يومي، وتصل الى كل فرد في المركز وجبة الغداء جاهزة، كما يوزع على العائلات التي لديها أطفال مخصصات من الحليب، ومساعدات من الملابس، إلا أن المشكلة التي تواجه العديد من الأهالي، هي الفوضى في التوزيع، إذ تشتكي حليمة، الجدة لثلاثة أطفال قضى أهلهم في الحرب، من بقاء أحفادها من دون وجبة الإفطار بعد انتهاء المخصصات التي حصلت عليها قبل أيام، وعدم تمكنها من الحصول على دفعة جديدة، بسبب «الهجوم» الذي يحدث من قبل الأهالي على منافذ التوزيع. وتقول: «الطعام متوفر، لكن الطمع من قبل البعض يجعلهم يأخذون حصة المخصصات أكثر من مرة، من دون مراعاة وجود عائلات لم يحصلوا عليها، فنبقى تحت رحمة من يتصدّق علينا من جارة أو قريبة وحتى غريبة». وتبين حليمة أن الفساد والظلم الذي عانت منه في سقبا بوجود «الثورجية» تعيشه اليوم بشكل مخفف في المركز، وتقول: «هناك بعض العائلات التي نعرفها ومن منطقتنا بالتحديد، يرسلون أولادهم إلى خارج المركز ليشتروا بعض الحاجات ويبيعونها لنا بأربعة أو خمسة أضعاف. مثل هؤلاء الناس لم ولن يتعلموا من الدرس القاسي الذي عاشوه في حرب الغوطة».
بعض المصاعب الأخرى التي يعيشها أهالي الغوطة في مراكز الإيواء، تشتت بعض العائلات الذين خرجوا بحافلات مختلفة اتجهت إلى مراكز مختلفة، ومَن علم أين حطت رحال باقي أفراد العائلة، فهو غير قادر على الوصول إليهم. تلك الصرخة أطلقها أبو عبدو الذي لم يعد يعلم مصير زوجته وأولاده بعدما خرجوا من بلدة بيت سوا، قبل عودته، ثم اضطر إلى الرحيل من البلدة راكباً الباص الأخير الذي غادر المكان من دونهم. وبعدما وصل إلى مركز إيواء في عدرا، فقد الاتصال بزوجته. يردد اسمها على مسمع كل من يصادفه، ويكرر قصته مراراً وتكراراً، علّه يصل إلى أي معلومة عن عائلته. ويؤكد منسقو مراكز الإيواء من وزارة الشؤون الاجتماعية أن الجهات الحكومية تعمل على معالجة هذا الموضوع من خلال إصدار بطاقات لكل شخص ومحاولة لمّ شمل تلك العائلات، حيث تم توجيه متطوعي عدد من الجمعيات لملاحقة موضوع لمّ الشمل، وقد بدأت منذ أيام بتوزيع الاستمارات المطلوب ملؤها لمعرفة التفاصيل والتصرف بموجبها على الفور