صحيح أنه ليس أمام إسرائيل سوى مواصلة توجيه رسائل التهديد، واستمرار التحريض على إيران لما تشكله من تهديد استراتيجي على أمنها القومي، لكن ذلك، لا يفسر تكرار الرهانات الفاشلة والتقديرات الخاطئة التي تستند إلى عجز عن تقمص العقل الاستراتيجي للقيادة الإيرانية. وجديد هذا القصور، رهان تل أبيب المتجدد على تراجع طهران عن ثوابتها النووية والإقليمية، نتيجة التغييرات المتطرفة التي تشهدها إدارة ترامب.تواصل إسرائيل مسلسل توجيه التهاني والترحيب بالتطورات التي تشهدها الساحة الأميركية، بدءاً من إعلان الرئيس دونالد ترامب القدس عاصمة للكيان الإسرائيلي، وقرار نقل السفارة الأميركية اليها، إلى استبدال وزير الخارجية ريكس تيلرسون، بمدير «سي آي إيه»، مايك بومبيو، وصولاً إلى إقالة مستشار الأمن القومي هربرت ريموند ماكماستر واستبداله بجون بولتون، الذي يتسم بمواقف متهورة ومغامرة في مقابل إيران وكوريا الشمالية. ومن المرجح أن يكون ترحيبها الأكبر لحظة إعلان الرئيس الأميركي موقفه الحاسم من الاتفاق النووي الإيراني، في الثاني عشر من أيار المقبل.
أتت التعيينات الجديدة في منصبي الخارجية ومجلس الأمن القومي، ملائمة لطموحات وآمال القيادة الإسرائيلية، وهو ما دفع المعلق العسكري في صحيفة «هآرتس» عاموس هرئيل إلى التساؤل عن مدى «نسبة تأثير تعيين شخص محدد لمنصب رفيع في الإدارة الحالية». لكن الواقع هو أن تعيينه يشكّل مؤشراً كاشفاً عن توجهات الرئيس فضلاً عن كونها خطوة تأسيسية وتمهيدية لخيارات استراتيجية. مع ذلك، أوضح هرئيل أنه حتى الآن «تميّزت الإدارة بالارتباك، والارتجال وعدم التخطيط للمدى الطويل. وأن دخول بولتون وبومبيو يمكن أن يشير إلى تغيير أكبر. ليس فقط أن التعيينين الجديدين يعتبران من الصقور المفترسة، وإنما لأن بولتون، على الأقل، يعتبر رجلاً عملياً، يستطيع دفع أفكاره نحو التنفيذ».
في السياق نفسه، تأتي تقديرات المؤسسة الأمنية، التي رأت أن تعيين بولتون يعزز فرضية أن ترامب ينوي الانسحاب من الاتفاق النووي، في الموعد المحدد. ويضيف التقدير الاستخباري الذي تم تقديمه إلى القيادة السياسية أن «الإيرانيين الآن هم في أكثر نقطة ضاغطة منذ توقيع الاتفاق في فيينا في 2015». وأعاد التقدير ذلك إلى تقاطع مجموعة من العوامل، إحداها توجه ترامب الحربي، والوضع الاقتصادي الإيراني الصعب، بفعل عدم تحقق التوقعات من وراء الاتفاق النووي، إضافة إلى ما تحدثوا عنه من تباينات بين الرئيس حسن روحاني والحرس الثوري، وصولاً إلى الرهان على تقدم سن مرشد الجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي، الذي أشار بنفسه إلى هذا الرهان، قبل نحو عشرة أيام خلال كلمة له أمام مجلس خبراء القيادة بالقول «العدو الآن يطمع بشيخوختنا، فيجلس ويحسب حساباته، فيقول إن هؤلاء شيوخ، والقائد كذا، والآخرون كذا إن هؤلاء شيوخ»، مؤكداً على أنهم «لا يعلمون بأن حركة شابة تعمل وتجتهد... وسوف تقوم بجميع الأعمال الكبيرة». وعقّب على ذلك بالتعبير عن اعتقاده الراسخ بأن مستقبل إيران سيكون أفضل بأضعاف من حاضرها.
في ضوء ذلك، يراهنون في الاستخبارات الإسرائيلية على وجود نافذة فرص لانتزاع تنازلات جديدة من الإيرانيين في المفاوضات الجديدة حول الاتفاق النووي وفي الحلبات الأخرى التي تتحرك فيها طهران على خلفية مشاكلها الداخلية. وترى الاستخبارات أن هذه الآمال قد تتحقق عبر التهديد بتجديد العقوبات الاقتصادية وربما حتى بالتلويح العسكري الأميركي. ويمكن الافتراض – بحسب هرئيل - أن هذا هو ما يروّج له رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أمام الرئيس ترامب خلال لقاءاتهما. مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن نتنياهو يتبنى هذا النهج منذ عهد باراك أوباما، وهو ينطوي على محاولة استدراج الولايات المتحدة لخوض مواجهة عسكرية مع إيران في ظل عجز إسرائيل عن القيام بالمهمة بالمستوى الذي يحقق لها آمالها.
وتضيف «هآرتس» أن إسرائيل لا تأمل فقط تعديل الاتفاق الذي يسهل على الإيرانيين العودة لتطوير البرنامج النووي، بعد انتهاء الاتفاق، من دون أن يطرح رقابة كافية على الأبحاث والتطوير لديهم. فإسرائيل تؤمن، في المقابل، أنه يمكن التوصل إلى إنجازات تتمثل في إبعاد الإيرانيين وأنصارهم عن حدودها مع سوريا، وتقييد البرنامج الصاروخي الإيراني، وتقليص المساعدات العسكرية لحزب الله. لكن في مقابل ذلك، رأى هرئيل أن «كعب أخيل» التوقعات يكمن في الإدارة ذاتها، التي تغمز بصقريتها نحو إسرائيل. خاصة أن الرئيس ترامب ورجاله، أظهروا عدم قدرة على التخطيط والتنفيذ البعيد المدى. ولفتت الصحيفة إلى أنه مع ذلك، حتى لو افترضنا أن تشديد الموقف الأميركي إزاء إيران سيضمن تفوّقاً استراتيجياً لإسرائيل، وهو افتراض يثير الجدل، لكن ليس من الواضح لحد الآن ما هي قدرات إدارة ترامب التنفيذية، وما إذا كان يستطيع تحقيق ذلك من دون جر المنطقة إلى الحرب.
مع ذلك، تبقى حقيقة أخرى لم يشر إليها المعلق العسكري في صحيفة «هآرتس»، وهي أن هذه الرهانات التي تستند الى صدى ومفاعيل التغيرات التي تشهدها الإدارة الأميركية، في الساحة الإيرانية على المستويين الشعبي والرسمي، تواجهها إيران برسائل مضادة تؤكد فيها على تمسكها بثوابتها، وتتجاهل (هذه الرهانات) الخطوط الحمراء التي فرضها «القائد» في إيران خلال المفاوضات النووية، مع إدراكه بأنها قد تؤدي الى نسفها ووضع الولايات المتحدة أمام خيارات ضيقة من ضمنها المواجهة العسكرية. لكن المنبع الأساسي لهذه الأخطاء في التقدير الإسرائيلي، ومعها الأميركي، يكمن في تجاوزه لحقيقة أن القيادة الإيرانية لا تقتصر اعتباراتها، في بلورة قراراتها، على تقديرها للتهديدات الكامنة في خيارات الأطراف المقابلة، وإنما أيضاً وقبل ذلك، على محاولة التوازن بين مواجهة هذه التهديدات وبين تحقيق مصالحها القومية والتمسك بثوابتها الاستراتيجية. وهو (بعض ما) يفسر مسلسل الرهانات الفاشلة والتقديرات الخاطئة التي سقطت فيها – حتى الآن - تل أبيب وواشنطن.