وقفت دمشق على كتف الغوطة، فأكلت من ثمارها وألبانها ولحومها وسكنت من خشب مشمشها. دخلت الغوطة مع دمشق ونهر بردى في عقد اجتماعي طوال العقود الماضية، فسقى بردى وأطعمت الغوطة واطمأنت دمشق. استمر هذا التناغم بين دمشق وغوطتها بأشكال مختلفة مع تنوع المنتجات والصناعات التي كان يتمّ تبادلها مع العاصمة وتصديرها إلى دول الجوار حتى بدأ الانفجار في عام 2011. إلى ما قبل هذا التاريخ كنا نقرأ: «سوريا تحتل المرتبة الثالثة عالمياً بإنتاج المشمش بعد الولايات المتحدة الأميركية وإيران، آلاف العمال كانوا يعملون في صناعة قمر الدين وحدها في شهر حزيران من كل عام».أربع وأربعون قرية هي قرى الغوطة التي حمت دمشق غذائياً وصناعياً، وشكلت ظهيراً لها طوال سنوات، أكبرها داريا ودوما. كانت داريا حتى عام 2011 تحرس منامات السوريين فتصنع لهم الأسرّة والفرش والملبوسات الداخلية، امتهن معظم سكانها صناعة الموبيليا والمفروشات التي غلب عليها طابع الورش الصغيرة برأسمال وعدد عمال صغير، كذلك كانت الحال في بلدتَي حمورية وسقبا اللتين ضمتا إلى جانب ورش الخشب والنجارة منشآت للصناعات الغذائية، أما عربين فقد أنتج ليلها أكبر تاجر خشب وأكبر تاجر لتصدير الجوز واللوز في العالم، متجاوزةً في كثير من الأحيان مدينة دوما التي حملت جدرانها وحتى أمسها القريب صور الرئيس جمال عبد الناصر.
لطالما أحبّت دوما جمال عبد الناصر، وتظاهرت ضد الانفصال في الـ 1961. فالشارع الدوماني لم يكن يوماً إلا عروبياً وناصرياً، ولم يكن للشارع «الإخواني» حضور يُذكَر. وُجد في دوما الفلاح «الشغّيل» المتدين العادي الذي يصلي ويصوم ويفطر على عنقود عنب ورغيف خبز. وُجدت النساء اللواتي حَجَبت العادات الاجتماعية وجوههنّ، لكنها لم تحجب ذوق أناملهنّ ودقتها في صناعة «الآغباني»، تلك الحرفة التي ولدت وكبرت وعاشت في دوما، فبقيت ترسم وتطرز مفارش الموائد وستائر المنازل والبيوت السورية، كما منازل السياح الذين زاروا سوريا يوماً. حضر في دوما الجامع، كما حضرت الكنيسة. وفي دوما الثمانينيات والتسعينيات، كان من مطلق الحرية أن تغطّي زوجتك ولك مطلقها أيضاً أن تبقيها سافرة. يروي لنا الإعلامي عمر عيبور وهو ابن مدينة دوما، كيف حاول «الإخوان» تفجير دمشق انطلاقاً من مدينته ردّاً على حوادث «الإخوان المسلمين» في حماة عام 1982، قالوا يومها: «دوما إلنا، بدنا نروح عا دوما كي نفجر دمشق»، لكن شيئاً مما تمنوه لم يحدث.
أربع وأربعون قرية هي قرى الغوطة التي حمت دمشق غذائياً وصناعياً

يضيف عيبور: «مع ذلك، هناك من ركب الموجة بعد الأزمة، يبدو أنه كان هناك نوع من التهيئة الدينية سبقت الأزمة، لقد تغير جوّ دوما». كلام عيبور يؤيده كلام عضو مجلس الشعب عن مدينة دوما محمد خير سريوي قائلاً: «كانت أعراس دوما من أحلى الأعراس، عراضات وحمامات وغناء جميل، لكن العرس وفي السنوات التي سبقت الأزمة، بات شبيهاً بالمآتم، حتى التدخين بات ممنوعاً فيه».
توزع سكان دوما بين مزارعين وحرفيين وتجار ومثقفين، فيما غابت عنها فئة الموظفين في الدولة، كما غاب عنها العسكر المتطوعون. يقول سريوي: «قد لا تصدقوا أن الفلاح الفقير في دوما كان لديه 100 عامل، والفقير من أهالي دوما كان يملك منزلاً وسيارة بيك آب صغيرة، وقد لا تصدقوا أن أكثر من نصف أهالي دوما لم يكونوا يعلمون من هو رئيس الحكومة، يعلمون فقط من هو رئيس الجمهورية، لم يكن يعنيهم، همهم هو تجارتهم». يضيف: «قبل هذا وذاك، كانت دوما حاضرة الغوطة كما حاضرة العاصمة اقتصادياً، سوق الهال في دوما كان أكبر سوق للخضر والفواكه في سوريا، صناعات الخزف والبلور، الألمنيوم وأبواب الخشب والزينة الداخلية وكل ما يتعلق بالإكساء والبناء، جميعها حرف أتقنها سكان دوما الذين تفوقوا على الأرمن في حلب خلال فترة من الفترات».
تهيئة بيئة الغوطة دينياً للحظة المناسبة قابلها جاهزية بعض عناصر الأمن لإشعال الفتيل بتصرفاتهم التي أساءت للناس. يروي لنا تاجر دوماني يعمل في سوق الحريقة قائلاً: «في بداية الأحداث، دخل عناصر الأمن منزل والدي وسرقوا محتوياته، فلم يعترض ولم يتذمر، لكنه بدا رجلاً آخر عندما قام أحد العناصر بتمزيق مقتنياته من صور وتذكارات قديمة. دخلت عليه وجدته يكيل الشتائم للدولة بمن فيها». يضيف: «قبل هذا، كان والدي من المدافعين الشرسين عن الدولة والجيش والأمن، لم يكن لأحد أن يتجرأ على لفظ اسم الرئيس أمامه مجرداً من اللقب». في المقابل: «دخل ضابط آخر منزل جيراننا في دوما، أقسم لي جارنا أن الضابط خلع من قدميه على باب الدار قبل أن يدخل». ذاك العنصر هدم ذاكرة رجل في لحظة، وذاك الضابط بنى ذاكرة رجل في لحظة وإلى الأبد.
نجحت نقطة الزيت في تعكير صحن الماء وانفرط العقد الاجتماعي بين العين ورمشها، وغاب قمر الدين عن موائد السوريين، «خمسة عشر ألف» دوماني التحقوا بزهران علوش بعد بدء العمل المسلح في الغوطة، وقبلها التحق كثيرون من مختلف بلدات الغوطة التي تحولت منذ عام 2012 إلى خاصرة رخوة تؤرق ليل العاصمة بالقذائف وأصوات المعارك. قبل ذلك بسنوات ليست بعيدة، بدأت الحكومة تؤرق ليل هذه البلدات عندما أدارت ظهرها لأسرّة داريّا ووجه بردى، وفتحت الأبواب للمنتجات التركية المستوردة التي أغرقت الأسواق، ما سبب منافسة شديدة بين المنتجات المحلية المشغولة بيد الصانع السوري والمحفورة بعرق الخشب ورائحته، وبين المنتج المستورد المشغول بخشب مخلوط بمواد معاد تدويرها ببقايا القمامة، النتيجة كانت إغلاق العديد من الورش والمنشآت الصناعية، وتحديداً في سقبا وحمورية. بعد ذلك، انتشرت الفصائل المسلحة المحشوّة بنشارة الخشب التركية على كامل الغوطة، وبدأت المعارك مع الجيش السوري وتصاعدت وتيرتها فدمرت ما تبقى من ورش صناعية كانت قد نجت من اجتياح المنتجات المستوردة، ودقّ «التعفيش» المسمار الأخير في نعش الورش والمستودعات التي نُهِبت وحُرِقت، وتشتّت شمل الحرفيين والصنّاع وتحولوا إلى عاطلين من العمل بعدما أتيح لهم ومنذ تفتح وعيهم أن يزرعوا ويصنعوا ويصدروا ويعيشوا رفاهية الاكتفاء الذاتي.
قالها محمد كرد علي في كتابه «غوطة دمشق»: «لو كان عندهم الحديد والفحم الحجري لما احتاجوا إلى شيء». فإذا بهم فجأة على أبواب عمرهم البدائي غير قادرين على أن يكونوا سوى متسوّلي إعانة وطالبي أمان. اليوم، تعود الغوطة، لكن الخوف، كل الخوف من حليمة إذا ما عادت إلى عادتها القديمة وتوقفت عن وضع السمن في الطبخ (حليمة هي عناصر الأمن ورجال الدين والحكومة).