دمشق | بين دعوة السوريين المقيمين في الداخل إلى استبدال مدخراتهم المالية بالدولار الأميركي، والمطالبة بفرض التعامل بالليرة التركية في بعض المناطق الحدودية المحاذية لتركيا والخاضعة لسيطرة تنظيمات مسلحة مختلفة، تحشد جهات «المعارضة» قواها للنيل اقتصادياً من «النظام»، والإسهام في حدوث انهيار شامل في سعر صرف الليرة السورية.
إذ لا يمكن اعتبار الدعوة الموجهة للسوريين لـ«دولرة» مدخراتهم تصب في خانة الحرص على مصالحهم كما يروج «المعارضون»، لأن أي انخفاض جديد على سعر صرف الليرة يعني أن الفقراء وأصحاب الدخل المحدود الذين يشكلون ما بين 60-83% سيدفعون ثمنه بقسوة، كما أن الدعوة لفرض التعامل بالليرة التركية نكاية بـ «النظام» سيكون ثمنه التبعية واسقاط السيادة الوطنية السورية عن جزء من البلاد.
ورغم الموقف التركي «الغامض» حيال ما تطالب به بعض أطراف «المعارضة»، إلا أن الأخيرة حاولت تسويق الفكرة وتبريرها عبر بعض وسائل الإعلام وتنظيم بعض الأنشطة، لكن من دون أن تتمكن من تقديم مؤشرات تضمن التطبيق أولاً والنجاح ثانياً، لا بل إن النقاشات كانت سطحية إلى درجة التعامل مع القضية كتعبيد طريق أو إقامة مستوصف طبي، وهذا يؤكد ما يذهب إليه الأستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق الدكتور شفيق عربش عندما يختزل هذه الفكرة بأنها «لا تتعدى بروبغندا هدفها تسجيل نقاط على الحكومة السورية والقول إنها تفقد سيادتها بشكل تام على بعض المناطق».
يستند مروجو التعامل بالليرة التركية إلى «مشجعات» اقتصادية في دعوتهم تلك، يأتي في مقدمها النفوذ الاقتصادي التركي في تلك المناطق، والذي يتجلى بوضوح بسيطرة السلع والبضائع التركية على أسواق المناطق الحدودية الخاضعة لسيطرة تنظيمات مسلحة، إذ تكشف بيانات تركية رسمية أن قيمة السلع والبضائع التي توجهت نحو سوريا خلال عام 2014 وصلت إلى نحو 1.4 مليار دولار معظمها كان من نصيب المناطق الشمالية الخاضعة لسيطرة التنظيمات المسلحة، كما أن للنشاط الواسع للسماسرة والتجار السوريين والأتراك الذين يتاجرون بالمحاصيل الزراعية السورية وبالمنشآت والموارد الصناعية والنفطية والخدمية والمقدرة قيمتها بمئات الملايين من الدولارات دور مؤثر في تبني تلك الدعوة.

قيمة السلع التي توجّهت
نحو سوريا خلال عام 2014 وصلت إلى نحو 1.4 مليار دولار



ثالث الأسباب الاقتصادية يتمثل في انخفاض سعر صرف الليرة السورية والتقلبات المفاجئة التي شهدها خلال الفترة الماضية، وهو واقع استغله مروجو التعامل بالليرة التركية لإشاعة الخوف لدى السوريين الموجودين في تلك المناطق من إمكانية حدوث انخفاض كبير ومفاجئ في سعر صرف الليرة السورية، وتالياً إقناعهم بالبحث عن بديل يحفظ لهم قيمة مدخراتهم المالية وتجارتهم.
أما «المشجعات» السياسية فتنحصر في عاملين اثنين، الأول يتعلق بالأطماع التركية السياسية والاقتصادية الواضحة والعلانية بالمناطق الشمالية وبعض المناطق الشرقية من سوريا، والثاني برغبة معظم التنظيمات المسلحة بتحقيق انتصار معنوي واقتصادي على «النظام» بعد الفشل في تحقيق اختراقات ميدانية لا سيما في محافظة حلب.

الغلبة للعملات الدولية

يجمع الاقتصاديون على أن المطالبة بفرض التعامل بالليرة التركية في المناطق الشمالية «اقتراح فارغ»، وبحسب أحد خبراء الاقتصاد، والذي فضل عدم ذكر اسمه، فإن «المناطق الحدودية في الدول التي تشهد حروباً ونزاعات ينتشر فيها التعامل بالعملات الدولية القابلة للتداول والتحويل وتحديداً الدولار الأميركي، وهذا يحدث حتى داخل الدول نفسها وليس فقط في المناطق الحدودية كما كانت الحال في لبنان والعراق وغيرهما، بمعنى أن السطوة هي للعملات الدولية وليس للعملات المحلية فهل الليرة التركية عملة دولية؟».
وإذا كانت أحوال الليرة السورية غير مستقرة لجهة سعر الصرف، فهذا لا يعني أن الليرة التركية قادرة على تقديم تضحية من أجل هدف سياسي، إذ يضيف الخبير الاقتصادي في حديثه لـ «الأخبار» أن الليرة التركية، وعلى أهمية الخطوة التي اتخذتها الحكومة التركية في العقد الماضي لجهة تحسين سعر صرف ليرتها عبر حذف ستة أصفار، فإن لديها معدل تضخم يمثل حالياً أداة مساعدة في زيادة معدلات الصادرات التي تحقق قفزات كبيرة مع روسيا وإيران وكردستان العراق، فهل الاقتصاد التركي قادر على تحمل زيادة جديدة في معدل التضخم». وهذا أيضاً ما يذهب إليه الدكتور عربش متسائلاً: «وهل من مصلحة تركيا الاقتصادية أن تُخرج كميات معينة من عملتها إلى خارج البلاد، ففي النهاية ما تقوله أطراف في المعارضة وتدعو إليه ليس بالضرورة يحمل المنفعة الاقتصادية لتركيا، وإن كان يمثل ضرراً للاقتصاد السوري».
من ناحيته يجزم الدكتور علي كنعان، رئيس قسم المصارف والتأمين في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، بعدم قابلية تحويل المقترح إلى واقع. ويشير في تصريح لـ«الأخبار» إلى وجود أسباب عدة تدفعه للجزم بذلك، فمن جانب «معظم التعاملات التجارية في مناطق الشمال الخارجة عن سيطرة الدولة تجري بالدولار، ويمكن لأي متعامل عند الحاجة أن يستبدل الدولار بالليرة السورية أو التركية، إضافة إلى أن تسعير السلع والمواد لا يزال يتم بالليرة السورية» لا سيما أن الحركة التجارية وتنقل الأفراد بين المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة والخارجة عنها لا يزالان قائمين بنسب متفاوتة، فمثلاً الدولة السورية تبدي كل عام اهتماماً خاصاً بشراء القمح وغيره من المحاصيل الاستراتيجية من جميع المناطق من دون استثناء بشكل مباشر أو عبر تجار ووسطاء، وتدفع قيمة المحصول المسوّق بالليرة السورية.
ليس هذا فحسب، فاستمرار الحكومة السورية بصرف رواتب عامليها من أبناء جميع المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة سواء كانوا مقيمين فيها أو اضطروا للنزوح عنها، يمثل دعماً مباشراً لحضور الليرة السورية، فالتقديرات الرسمية تشير إلى أن الحكومة تصرف رواتب لما يزيد على 250 ألف عامل في المنطقة الشرقية والشمالية، أي أن مصدر الدخل الأساسي لأكثر من 250 ألف عائلة هو بالليرة السورية.
حتى الأمور الفنية تقف عائقاً أمام تنفيذ مثل هذا الطرح، فالدكتور كنعان يوضح أنه «مقابل توفر الليرة السورية بكل فئاتها وبكميات كبيرة في المناطق الشمالية فإن حضور الليرة التركية قليل، وعليه إذا ما أرادت الحكومة التركية السير في هذا الطرح فهي ستكون مضطرة لضخ كميات كبيرة من فئاتها في أسواق تلك المناطق، وهو غير متوفر حالياً فضلاً عن انعكاساته الاقتصادية».
وتأكيداً على عدم واقعية هذا الطرح في ظل هيمنة التعاملات الدولارية، يعود الخبير الاقتصادي إلى التاريخ، فيشير إلى تجربة اليمن في عهد الإمام عندما تم اعتماد الليرة الذهبية لـ «ماريا تريزا» نسبة إلى الملكة التي حكمت النمسا وهنغاريا وبوهيميا، إنما الوضع الاقتصادي لليمن آنذاك كان متخلفاً ومحدوداً للغاية في مبادلاته التجارية.