ليس أدلّ على الكمين المنصوب للقائد الكردي السوري صالح مسلم سوى قلة الساعات التي فصلت بين إيداعه زنزانة قسم الانتربول التشيكي في براغ بناءً على مذكرة اعتقال تركية، وبين وصوله إليها للمشاركة في منتدى قسم دراسات تطوير الشرق الأوسط التابع لجامعة كاليفورنيا، وفي سرعة الاعلان عن تقديمه إلى محكمة تشيكية في الساعات المقبلة، واستعجال التشيكيين الأتراك نقل ملفهم القضائي لاسترداده، لقطع الطريق أمام أي وساطات لم ينجل منها حتى الآن سوى نجدة دبلوماسية فرنسية يتيمة لم تثمر للإفراج عنه، على ما قاله مسؤول كردي.
وبليغ أيضاً صمت الأميركيين عن الاعتقال، حيث يرعون أكبر مراكز التنصّت على أوروبا والعالم في أشدّ دول أوروبا الشرقية «ناتوية»، وأكثر مراكز «سي آي إي» ازدحاماً منذ نهاية الحرب الباردة.
وفي انتخاب ليلة أمس لاعتقاله، تساؤلات عن التوقيت ومن اتخذ القرار السياسي وأي صفقة عقدت، حينما لم يبخل صالح مسلم لفرص اعتقاله على أحد منذ سنوات وهو يجول على عواصم أوروبا، التي تملك هي أيضاً أقساماً من الانتربول لم تستجب مع ذلك لمذكرة اعتقال تركية بتهمة الارهاب صدرت منذ عام ٢٠١٦، ثم رفعت إلى مصاف «التهديد الوشيك» في تشرين الثاني الماضي، قبل أن يوشحها الرئيس رجب طيب أردوغان بجائزة مليون دولار لمن يرشد إلى رجل أصبح سجين براغ أمس، بعدما كان حراً يقيم في فنلندا رسمياً، ويتنقل بين عواصم أوروبا ويستقبله الرئيس فرانسوا هولاند في قصر الإليزيه في أيار من العام الماضي.
ما الذي اختلف اليوم لكي يعتقل صالح مسلم محمد؟ قد يكون اعتقاله النتيجة الأولى لمحادثات وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون مع أردوغان. المحطة التشيكية الإجبارية لصالح مسلم وقعت فيما كان وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو ينشر بتصريحاته نذائر انهيار العلاقات التركية الأميركية.
في فترة ليست ببعيدة، لم يكن واضحاً أن للولايات المتحدة خطة محكمة في سوريا، أو لائحة متبلورة من الأولويات. فتح ذلك الغياب باباً مشرعاً هبّت منه رياح قراءات وتأويلات ذهبت اتجاهات شتى. لكن خطاب تيلرسون أمام معهد «هدسون» في الثامن عشر من الشهر الماضي حسم الأولويات للادارة الجديدة: مواجهة النفوذ المتنامي لإيران وروسيا في سوريا عبر التموضع العسكري المباشر في الشرق السوري، وإفشال مشاريع التسوية الروسية والتقدم إلى مذبحة متعاوني شركة «فاغنر» ورجال يفغيني بريغوجين الملقب بـ«طباخ بوتين» في مياه الفرات، وإطالة أمد الحرب إلى أن تنضج الشروط المؤاتية أميركياً لتقسيم سوريا.
إن إنفاذ هذه الأولويات كان يقتضي، كما كشفت وثيقة خطة التقسيم الاميركية التي نشرتها «الأخبار» الخميس الماضي، استيعاب تركيا أولاً. اعتمدت الولايات المتحدة في مشروعها السوري بشكل أساسي على أكراد حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني. أظهر رفاق صالح مسلم فعالية كبيرة في الحرب على «داعش»، تطورت خلالها علاقة قوية وشراكة وتعاون في خضم هذه الحرب. وباتت الولايات المتحدة ترى أن الأكراد هم الجسم الرديف الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في سوريا. جاء التوسع الجغرافي الكردي في قلب الجزيرة السورية النفطية والطاقوية والزراعية في دير الزور والرقة والحسكة على امتداد أكثر من ٥٠ ألف كيلومتر مربع، ليمهد لمشروع مكتمل العناصر تجعل منه كياناً سياسياً قابلاً للحياة اقتصادياً، وهو ما يثير مخاوف تركيا أن يتحول الشمال السوري إلى جبل قنديل ثانٍ. لم تكن الولايات المتحدة على عجلة من أمرها لتبديد المخاوف التركية، خصوصاً أنها جاءت على خلفية محاولة الانقلاب التي تورطت فيها عبر الداعية فتح الله غولن، وكانت الولايات المتحدة غاضبة من التقارب مع روسيا وصفقة «اس ٤٠٠»، ومشروع خطوط غاز السيل التركي.
يقول مصدر غربي إن اعتقال صالح مسلم منطقي، خصوصاً بعد بروز ديناميات جديدة داخل الإدارة الأميركية تحثّ على تقديم تنازلات لتركيا واستيعابها وتفادي ذهاب زعيمة الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي بعيداً في التقارب مع الروس في لحظة تصعيد ومواجهة معهم. انعكس ذلك في زيارة تيلرسون الأخيرة إلى أنقرة، وتبلور اتجاه في أوساط «البنتاغون» للتركيز على العدو الرئيسي في سوريا مع الذهاب نحو مواجهة أكبر مع روسيا وإيران والجيش السوري. يضيف المصدر لـ«الأخبار» أن «زيارة تيلرسون أدت إلى تفاهمات أولية تركية أميركية، ضمنت هذه المرة للأتراك تلبية مطالبهم في أمن الحدود مع سوريا».
ومن أجل استعادة الأتراك، تعهّد الأميركيون بتعديل الإطار السياسي والعسكري الذي يهمين فيه الأكراد على «قوات سوريا الديمقراطية»، عبر تنفيذ هندسة جديدة ستؤدي في النهاية إلى تذويب الغلبة الكردية في هذه القوات لمصلحة المزيد من التعريب. الخطوة الأولى التي تعهد تيلرسون بتنفيذها، على ما يقوله المصدر الغربي، هي إخراج القوات الكردية من منبج، واستبدالها بقوة مشتركة عربية أميركية، تتشكل من أكثر من ألف مقاتل يتبعون لـ«مجلس منبج العسكري»، و٢٠٠ جندي من القوات الخاصة الأميركية يعملون انطلاقاً من قاعدة كوباني (عين العرب). تندرج خطوة منبج في مشروع أميركي أكبر وأوسع تم التفاهم عليه مع الأتراك، والأكراد أيضاً، عبر إعادة هيكلة سياسية وعسكرية للقوات الكردية، وللبنيان السياسي والاداري للفيدرالية الكردية في الشمال السوري. وتتصدى الولايات المتحدة في عملية إعادة الهيكلة إلى تعريب العسكر في دير الزور والرقة، لمأزق مزمن، حيث لا وجود لكوادر عربية وازنة أو لقيادات سياسية أو عسكرية يعتمد عليها، باستثناء مشاركتها عداءها الواسع للجيش السوري، إذ إن كثيراً منها قادم من «داعش»، والمجموعات «الجهادية» أو بقايا «الجيش الحر». لكنها لا تملك خبرة الأكراد الطويلة في القتال والإدارة، وهو ما تعتقد واشنطن أن بامكانها تصحيحه من خلال تخصيصها، من جهة، لأكبر موازنة عسكرية لها في شرق الفرات تبلغ ٤٠٠ مليون دولار لتدريب ٣٠ ألف عربي ينتمون الى عشائر العفادلة والبقارة والعقيدات والبوشعبان والجبور، والإبقاء على ألف جندي من القوات الخاصة شرق الفرات، واستخدام مطار الطبقة كقاعدة إضافية إلى جانب قاعدة الرميلان من أجل تحقيق هذا التوازن «العربي الأميركي» مع الأكراد.
يمحو اعتقال صالح مسلم صلة النسب الأميركية مع حزب العمال الكردستاني لطمأنة الاتراك. ويبدو الأمر أسهل من الماضي، إذ فقد الاتحاد الديمقراطي أهميته تدريجياً منذ أن تشعبت بنى الإدارة الذاتية في الشمال السوري في مئات المجالس المحلية، وتوسعت معها أيضاً جغرافيا القيادات العسكرية والاجهزة الامنية، في «وحدات حماية الشعب» الكردية التي يقودها سيبان حمو، أو «كوباني مظلوم»، رجل «قوات سوريا الديمقراطية القوي»... البديل الكردي يبدو جاهزاً.
ويلفت مصدر غربي إلى أنّ مصير «حزب الاتحاد الديمقراطي» قد حسم، وكان تيلرسون قد أبلغ الأتراك أن الأكراد يتجهون إلى طيّ صفحة «بي يي دي PYD»، والاعلان عن «حزب سوريا المستقبل»، في سورنة كاملة في الأسابيع المقبلة. تعهد الأميركيون بتسريع بناء شراكة عربية وازنة في دير الزور والرقة ومنبج، وهي صيغة تقطع مع المرجعيات الأوجلانية (نسبة إلى عبدالله أوجلان) المقلقة على المقلب التركي. تنطوي هذه التسمية على ربط نهائي بمشروع فيدرالي لسوريا يمكن لأميركا أن «تبيعه» للأتراك من براغ التي تدرس تسليم صالح مسلم من دون أي اعتراض من واشنطن... حتى الآن.