تونس | يوم الأحد الماضي، نشرت صحيفة تونسية محلية مقالة تحدّثت عن «صمود» محافظ البنك المركزي، الشاذلي العيّاري، أمام التقلبات السياسية والأزمات الاقتصادية التي تعصف بتونس، وخلصت إلى أنّه لا يوجد من يستطيع إقالته. لكنّ تلك المقالة تحوّلت إلى مصدر تندّر في الأوساط الصحافية المحلية، لكونها مثّلت «نحساً» على الرجل الذي أُعفي من مهماته ثلاثة أيام بعد صدور تلك المقالة، أي أول من أمس.
لكن في حقيقة الأمر، إنّ قرار إعفاء الشاذلي العياري (85 عاماً!) كان مطروحاً قبل إعلانه رسميّاً. فمثلاً، ذكر أمين عام المركزية النقابية نور الدين الطبوبي، في كلمة له يوم 25 كانون الثاني/جانفي الماضي، أنّه لا يُمانع التجديد على رأس المصرف المركزي وتغيير العيّاري. وهو ما فُهِم في ما بعد أنّ الرئيس الباجي قائد السبسي، أو رئيس الحكومة يوسف الشاهد، أعلم الطبوبي بمقترح أو بقرار تغيير الرجل الذي لا يعرف أيٌّ كان كيف استطاع البقاء على رأس البنك المركزي لقرابة 6 سنوات، خاصة أنّه لم يكن يحظى منذ توليه المنصب في 24 تموز/جولية 2012 بإجماع سياسي، بسبب ماضيه السياسي وعلاقته بالنظام السابق.
وإلى يوم هرب زين العابدين بن علي نحو السعودية في 14 كانون الثاني/جانفي 2011، كان الشاذلي العيّاري عضواً في «مجلس المستشارين» (تم حلّه رسمياً في آذار/مارس 2011) بتعيين من بن علي. كذلك فإنه شغل مناصب في مركز الدراسات الاستراتيجية في رئاسة الجمهورية، وأسهم في صياغة الأبحاث والنشر في «حزب التجمع الدستوري الديموقراطي» (حزب بن علي)، ومثّل النظام السابق كسفير ومستشار لبعثات اقتصادية لدى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وغير ذلك.

عمل مع كل الأنظمة من دون التورّط سياسيّاً في منعرجاتها المظلمة

رغم أنّ الرجل لم يكن من أعمدة نظام بن علي، أو حتى من المؤثرين في المشهد، ولم تكن له أي مواقف سياسية مهمة، لكنه لم يكن «نكرةً» أيضاً، إذ هو يمثّل «التكنوقراط» أو موظّف الدولة السامي الذي يعمل مع كل الأنظمة والحكومات التي تدير أجهزة الدولة، من دون التورّط في انزلاقاتها. وللتذكير، هو الذي لجأ اليه الحبيب بورقيبة حين قرّر إقالة أحمد بن صالح، والتوجه نحو التخلّي عن التجربة الاشتراكية عام 1969.
في تلك المرحلة التي توجهت خلالها تونس نحو التخلي عن «التجربة التعاضدية» أو الاشتراكية، شغل العياري عدداً من المناصب الوزارية في نظام بورقيبة، من بينها تلك المتحكّمة في التوجه الاقتصادي الجديد للبلاد (في الفترة الفاصلة بين 1969 و1975، تولّى العيّاري مثلاً وزارتي الاقتصاد الوطني والتخطيط). وجدير بالذكر أنّه درس العلوم الاقتصادية في جامعة السوربون الفرنسية، وحصل على درجة الدكتوراه في ذلك الاختصاص، ما أتاح له العمل مع نظام بورقيبة في إطار توجه اقتصادي جديد للدولة.
منذ ستة أعوام، يتجنّب الدخول في التجاذبات السياسية، كما أنّه غير محبّ للظهور الإعلامي. ولعلّ عدم إتقانه لفنّ الخطابة كرّس عنده «الحياد السياسي» ومنهج «التكنوقراط» الذي يعمل مع كل الأنظمة.
كل تلك التراكمات، إضافة إلى سنّه المتقدّم، لم يشفعا له اليوم أمام الأزمة الاقتصادية وتراجع العملة المحلية، خاصة في ظلّ تصنيف تونس مجدداً في «قائمة (أوروبية) سوداء» للدول الأكثر عرضة لعمليات غسل الأموال، والتي جرى تحميل العياري مسؤوليتها المباشرة باعتباره المسؤول الأول عن منظومة الرقابة المالية والمصرفية في البلاد، ويترأس لجنة التحاليل المالية بصفته محافظاً للمصرف المركزي.
هذا المشهد يُظهِر العياري كأنّه «كبش فداء»، رغم أنّه عايش كل الأنظمة في تونس وعمل معها دون التورّط سياسيّاً في منعرجاتها المظلمة. وهو سوف يمثُلُ في الأيام المقبلة أمام البرلمان للمصادقة على قرار إعفائه ورحيله نهائياً عن «الدولة».