خرج الشاب "معقود" الطرفين، أما الفتيات فحزن ليلتها كثيراً، كان حكاية هذا الشاب المتزوج بداية الأهزوجة التي تقال اليوم في الأعراس الفلسطينية:يا ظريف الطول ويا بو العقودات كانو البناتي ناطرينك عالشباك
ولما يا حبيب ربطتن للعقدات طيرت الحلوات وزعلت البنات
لربما باتت هذه الأهزوجة شيئاً من الثقافة المنسية، ونسيت القصة، حتى أن كثيرين ينطقون بعض الكلمات بطريقةٍ أخرى، فتصبح العقودات: الشامات، والبنات المنتظرات يصبحن شيئاً آخر، لكن في المجمل كانت الحطة جزءاً لا يتجزأ من ثقافة الشارع الفلسطيني. تلك الثقافة التي بدأت أول الأمر أن طلب مفتي الديار الفلسطينية الشيخ أمين الحسيني من الشعب الفلسطيني عموماً أن ينزعوا الطربوش التركي عن رؤوسهم وارتداء "الحطة" كبديل. جاءت هذه الخطوة بعد أن أصدر الاحتلال البريطاني تعميماً بالقبض على كل من يرتدي "حطة". وقتها كان الفدائيون –المقاومون في ذلك الوقت- يتلثمون بالحطة بهدف ألا تعرف شخصياتهم الحقيقية ويتعرضون وأهلهم للتنكيل من قبل سلطات الاحتلال. وقتها ولأول مرةٍ في تاريخ الشعوب العربية ككل، قرر شعبٌ بكامله أن يطيع أوامر قيادته لحماية أبنائه، كانت المقاومة التي تمثّل روح الناس، جزءاً لا يتجزأ منهم، لذلك كانت تلك الطاعة المطلقة، فرُمي الطربوش، وارتدى الجميع الحطة، وكانت تلك من اللحظات التي لم يعد هناك تفريقٌ بين "البدوي والحضري"، "الفلاح وابن المدينة"، حيث كانت الحطة هي علامة البدوي-الفلاح مقارنةً بابن المدينة الذي يرتدي الطربوش. يومها كتب شاعر الثورة الفلسطينية عبدالرحيم محمود (أبو الطيب): "يا له من يومٍ مجيدٍ مذ ترى، كيف ارتدى شعبٌ بأكمله زياً موحداً، خرج طربوش تركيا من الشباك، لتدخل حطة العرب من الباب". بالإضافة إلى ذلك، كان لارتداء الختيار (أي القائد الفلسطيني ياسر عرفات أبو عمار، والذي يناديه الفلسطينيون تحبباً بالختيار) للحطة التي كان يعقدها على طريقته الخاصة (بحيث تصبح "مدينة القدس" على رأسه تماماً) أثرٌ كبير في نفسية كثيرٍ من "الثوار" الأوائل، فقد كان أبو عمار يهدف من ذلك إلى القول للجميع بأننا "استمراريةٌ" لثوار الزمن الأول، استمرارية لعبدالقادر الحسيني وعزالدين القسام (الذي لا يعرف كثيرون أنه استشهد وهو مرتدٍ حطته وليس عمامته الشهيرة التي تظهر في صوره)، وسواهم من المناضلين الأوائل.
تلك الحطة آنذاك كانت رمزاً مقدساً، ممثلاً لشارعٍ فلسطيني بكامله، لم تكن هي عينها الملونة التي تباع اليوم في الطرقات، لم تكن كذلك تلك التي يرتديها بعض فناني هذا العصر تعبيراً عن انتمائهم للموضة (وليس لقضية)، هي ليست كذلك تلك التي تمررها قناة ديزني للأطفال في برامجها بصفتها من "التراث اليهودي" للمنطقة (كما حصل في فيلم Mighty Ducks حيث يمكن مشاهدة الفتى اليهودي الذي يرتدي الحطة كل الوقت، ويشير إليها على أساس أنها جزءٌ من تراثه وتراث أجداده).
تبدو الحطة اليوم في كثيرٍ من اللحظات "وحيدةً"، "حزينة"، جراء كثيرٍ من الأمور، مثلاً لم تعد الحطة تصنع في فلسطين، بل إنه لم يبق من المعامل التي كانت تنتج الحطة الفلسطينية إلا معملٌ واحد (تحديداً في مدينة نابلس) بينما أغلب ما يرتدى اليوم يأتي من "الصين"، فضلاً عن هذا، فإنَّ معامل "صامد" والتي كانت من أهم من أنتج الحطة ذات نقوش "سنبلة القمح" (وهي نقشة الحطة الفلسطينية المعروفة) أغلقت أبوابها (وسرقت وبيعت من قبل كثيرين) في عام 1982. لكن رغم هذا الحزن، تظل بعض بوارق الأمل: كلما شاهدت "ثائراً" في أي بقعةٍ من بقاع الأرض تجد "حطة" ترفرف في خلفية الصورة، تجد مناضلاً يرتديها وشباباً من جنسياتٍ مختلفة، باتوا يجدون في "الحطة" تعبيراً عن "انتمائهم" للأرض، للمقاومة، للصراع ضد الظلم، وقتها يمكنك أن تشعر بأن "رسالة" الحطة لم تنته، وبأن الصهيوني والأميركي وسواهما لن يستطيعوا أن يمحوا أثرنا من هذا العالم.