تونس ــ الأخبارما أشبه «يوم تونس» بـ«أمس لبنان». لعلّ القفز فوق اختلافات الزمان والمكان، يُحيي الذاكرة، فتُستعاد صور زيارة الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، لبيروت في نهاية التسعينيات. زيارةٌ قدّم الضيف الفرنسي نفسه خلالها على أنّه عرّاب التوافق القائم في لبنان، وعرّاب رئيس وزرائها (الراحل رفيق الحريري)، وعرّاب علاقات بيروت الإقليمية في ذلك الحين... وعرّاب مبادرة تعزيز الدور الفرنكوفوني للبنان.

ربما هكذا يمكن اختصار زيارة الدولة التي أجراها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لتونس في اليومين الماضيين. فبرغم أنّ هذا الرجل يريد أن يُظهر نفسه «أقل إيديولوجية» على صعيد العلاقات الدولية من أسلافه ممن اعتلوا سدّة الرئاسة في الإليزيه، إلا أنّ زيارته والخطاب الذي ألقاه أمام النواب التونسيين في «برلمان باردو»، أعاد الذاكرة كثيراً إلى أيام سبق لبيروت أن شهدت مثيلاتها.
في ذلك الزمن، لا إنكار أنّ لبنان استفاد من «عباءة شيراك» في عدد من المواضع، قبل أن يأتي زمن الانعطافة الفرنسية في سنوات الألفية الأولى، وما تلا ذلك ضمن رواية باتت فصولها معروفة. لكن يبقى أنّ الفارق الأساس يكمن في أنّ ماكرون الذي يلف عدداً من العواصم راهناً حاملاً معه، وبالأخص إلى تونس، تصورات لمشاريع سياسية وإقليمية جديدة، ليس بثقل شيراك ولا يحمل حتى طموحاته، ولا قدرة له أصلاً على مثل تلك الطموحات. وهذا ما يؤمل أن تكون تونس مدركة له، حتى لا يكون التعويل كبيراً على ضيف تبدو وعوده ضعيفة بالأصل.

زيارات الوعود

دعت قوى يسارية فرنسا إلى الاعتراف بدينها التاريخيّ
تجاه تونس

في الأشهر التالية على تغيير نظام زين العابدين بن علي، حضر الباجي قائد السبسي، وقد كان رئيس الحكومة المؤقتة في حينه (2011)، قمة مجموعة الدول الصناعيّة الثماني الكبار، وعاد ليتحدث من بعدها عن وُعود تلقاها بتخصيص برنامج دعم لتونس شبّهه بـ«مشروع مارشال» الذي استفادت منه أوروبا في أعقاب الحرب العالميّة الثانية لإعادة بناء اقتصاداتها وبناها التحتيّة. مرّت السنوات ولم يأتِ الدعم المأمول، فكلّ ما حصل هو تحويل بعض ديون البلد إلى استثمارات، وتقديم قروض أو ضمانات لقروض أخرى من «صندوق النقد الدولي».
وخلال الحملة لانتخابات عام 2014، أعاد قائد السبسي إحياء الموضوع، ووعد بتحقيق المشروع في حال فوزه وحزبه. تحقّق الانتصار الانتخابيّ، ولم يأتِ «غودو المنتظر». تحدثت النُّخب، وما زالت تتحدث، عمّا يُشبه «خيانة» أوروبا لالتزاماتها تجاه شريكها الجنوبيّ ــ تونس، التي وللإشارة قال بخصوصها ماكرون أمس، في خطاب أمام مجلس النواب إنّ «مسؤولية هائلة» تقع على كاهلها لأنّ «العالم العربي، المغرب العربي، وكل شواطئ البحر المتوسط تصبو إليكم وهي بحاجة لأن تراكم تحققون النجاح... فرنسا ستقف إلى جانبكم حتى تُنجحوا هذا الربيع الرائع الذي لا يزال مزهراً».
وفي الخطاب نفسه أمام البرلمان (امتدّ لما يقارب ساعة من الزمن)، تحدث الرئيس الفرنسي عن مضاعفة الاستثمارات والمساعدات الفرنسيّة في السنوات الخمس المقبلة بواسطة الآليات التي حوتها الاتفاقات ووكالة الدعم الفرنسيّة. وبعدها، قال ماكرون أثناء اختتامه المنتدى الاقتصادي التونسي ــ الفرنسي، الذي حضره إلى جانب رئيس الوزراء التونسي يوسف الشاهد وشارك فيه نحو مئة من كبار رجال الأعمال الفرنسيين، إنّ هذا الهدف «ممكن التحقيق، وأنتظر مشاركة كاملة من الشركات».
في غضون ذلك، فبرغم حديث رئيس مجلس النواب، محمد الناصر، أمس، في كلمة سبقت خطاب ماكرون أمام «مجلس نواب الشعب» عن ضرورة «التعويل على الذات»، فإنّ أحداً لم يُخفِ حجم الانتظارات الكبيرة من فرنسا، وهي الشريك الاقتصاديّ الأول للبلاد. حتى اليسار البرلمانيّ، ممثلاً في «الجبهة الشعبيّة»، تحدث في بيان عن ضرورة فسخ فرنسا لإجمالي ديونها والترفيع المعتبر في مساعداتها الماليّة «اعترافاً... بدينها التاريخيّ تجاه تونس».
من الناحية السياسيّة، تحدث ماكرون عن «النموذج التونسيّ» الذي قال إنّه نجح في مصالحة الإسلام بالديموقراطيّة، وعن دعم سياسيّ فرنسيّ لتونس بوصفها «شقيقة وليس فقط صديقة». وقد أبدى الرجل في حديثه محاولة لتجنّب مزالق «الخطاب الاستعلائيّ» الذي تبناه أسلافه، إذ عقب اجتماعه في قصر قرطاج مع الرئيس الباجي قائد السبسي، أجاب أحد الصحافيّين عن سؤال بشأن موقفه مما تشهده تونس من إشارات لعودة القمع وعن انتقادات لمنظمات دولية تصب في هذا الصدد، أبرزها الانتقاد الأخير لـ«هيومن رايتس ووتش»، قائلاً إنّ فرنسا نفسها تلقى انتقادات من المنظمة، وأنّه لم يأتِ ليصدر أحكاماً، وتلك في الأخير مسألة داخليّة على ذمة القضاء ومؤسسات البلاد الديموقراطيّة.
تحدث الرئيس الفرنسيّ أيضاً عن التاريخ المشترك بين البلدين، معترفاً بالحقب غير السعيدة التي اعترته، وأنهى محاولاته «لتجاوزها» بحركة رمزيّة، إذ توجه إلى وضع إكليل من الزهر على «نصب الشهداء» وتجوّل داخل «متحف الذاكرة الوطنيّة» في «روضة الشهداء».

محور إقليمي... واحتجاجات

يؤمل ألّا تكون
تونس معوِّلة على ضيف تبدو وعوده ضعيفة بالأصل

على مستوى العلاقات الإقليمية، فإنّ زيارة ماكرون لتونس تندرج في سياق جولته الأفريقيّة الواسعة، في مسعى لإقامة ما سمّاه «محوراً متكاملاً» يربط بين غرب أفريقيا وشمالها بأوروبا. وقد شملت الزيارات السابقة مالي والجزائر والمغرب وبوركينا فاسو وساحل العاج، فيما سيتوجّه الرئيس الفرنسيّ بعد تونس إلى السنغال في زيارة تمتد ليومين أيضاً. ويحمل المحور الذي تريد فرنسا إقامته على امتداد مستعمراتها السابقة أهدافاً متعددة، أهمها «محاربة الجماعات الجهاديّة» في صحراء منطقة الساحل، وتعزيز الزخم الذي تشهده «المجموعة الاقتصاديّة لدول غرب أفريقيا» الذي أعادت موريتانيا إحياء عضويتها به العام الماضي والذي تسعى المغرب بدورها للانضمام إليه، إضافة إلى تطوير التعليم وحضور فرنسا على عدة مستويات، لأسباب من بينها محاولة الحدّ من تدفّق الهجرة إلى أوروبا.
من جهة أخرى، لم تمضِ الزيارة دون احتجاج، إذ استغلت المدارس الفرنسيّة في تونس، التي تضم أكثر من 6 آلاف تلميذ، وجود الرئيس للتعبير عن استيائها من سياسته التقشفيّة تجاه المدارس الفرنسيّة في الخارج، مشيرة إلى المفارقة في خطابه المُبجّل للفرنكوفونيّة من ناحية وسياساته المكبّلة لها من ناحية أخرى. وقد تحدث بعض الصحافيّين أيضاً، خاصّة العاملين في وسائل الإعلام الأجنبيّة في تونس، عن محاولة الرئاسة التونسيّة منعهم من حضور فعاليّات الاستقبال في القصر، بحجّة محدوديّة الأماكن المتوافرة. ولم يقف الصحافيّون متفرجين، بل طلبوا من «فريق الإيليزيه» ضمهم إلى الفريق الإعلاميّ الفرنسيّ، وهو ما حصل بالفعل، فدخل الصحافيّون التونسيّون قصر قرطاج مع الفريق الرئاسيّ الأجنبيّ! (ليست تصريحات قائد السبسي الناقدة لأداء مراسلي الصحافة الأجنبيّة، في الفترة الأخيرة، ببعيدة عن ما حصل).
وجدير بالذكر أنّه خلال حفل استقبال ماكرون في قصر قرطاج، وقّع وزراء البلدين ثمانية اتفاقات، يحوي أهمّها أربع وثائق هي بمثابة «خريطة طريق» للعلاقة الثنائية في الفترة المقبلة، بينما شمل اتفاق آخر تطوير التعاون الأمنيّ وآليات مكافحة تمويل الإرهاب. أما بقية الاتفاقات فقد تناولت قطاعات التعليم، وفي هذا الصدد وُقِّع اتفاق لتأسيس جامعة تونسيّة فرنسيّة تُعنى بالدراسات الأفريقيّة، والثقافة (الفرنكوفونيّة) ودعم الاستثمارات.




«سئمنا الوعود»

علّق الأمين العام لـ«الاتحاد العام التونسي للشغل» (المركزية النقابية)، نور الدين الطبوبي، على زيارة إيمانويل ماكرون، قائلاً إنّ «مساعدة تونس وتجربتها الديموقراطية لا يكون بالكلام والوعود... سئمنا الوعود». ودعا فرنسا إلى إعفاء تونس من ديونها، معتبراً أنّ خطوة جريئة كهذه من شأنها التكفير عمّا جرى إبان الحقبة الاستعمارية من استغلال للخيرات التونسية، وستجعل تونس قادرة على بناء اقتصادها والمواصلة في مسارها الجديد.



«لا شيء... إلا الدفاتر»