سريعاً، ردّت دولة الإمارات الصفعة للجانب السعودي، عبر إعطائها الضوء الأخضر لـ«المجلس الانتقالي الجنوبي»، التابع لها والمموّل والموجّه من قبلها، بالتصعيد العسكري والأمني، وإعلان الحرب على ما يسمى قوات «الشرعية» الرسمية، التي تؤمن لـ«التحالف» غطاءً استمرار الحرب على المستوى الدولي.
يأتي ذلك رداً على التصرف السعودي الأحادي في جنوب اليمن، من خلال اتخاذ المملكة مجموعة من الإجراءات، على رأسها إيداع مليارَي دولار في البنك المركزي اليمني في عدن، لتعقب ذلك زيارة لسفير السعودية في اليمن، محمد آل جابر، لعدن، تعمد خلالها تفقّد ميناء عدن الذي تستشعر الإمارات إزاءه حساسية عالية، كاشفاً أن هناك خطة سعودية لليمن تتجاوز المساعدات إلى المناحي الأخرى كافة، ولافتاً إلى «أننا نطور ميناء عدن وميناء المكلا لتطوير الاقتصاد وتوفير فرص عمل».
كذلك سمع محادِثو السفير منه تأكيداً على أن المملكة في صدد إعادة رسم سياستها في جنوب اليمن بما يتلاءم مع دورها وقوتها، معللاً عدم اهتمام بلاده في السابق بالمحافظات الجنوبية بانشغالها بالوضع السعودي الداخلي. وترافق ذلك مع قيام البحرية السعودية، الأسبوع الماضي، بإنزال عشرات العربات المسلحة إلى محافظة المهرة، والسيطرة على بعض المواقع الحيوية فيها، بعدما كانت المحافظة حتى الأمس القريب موضع ترقب واهتمام من الجانب الإماراتي لحاجته إليها في الضغط على سلطنة عمان.
ومهما حاول الجانب الإماراتي التهرّب من جوهر الصراع «غير المعلن» مع السعودية، والذي يُنفّذ بـ«أدوات يمنية»، كما حاول وزير الدولة للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، الإيحاء، ملمّحاً إلى أن ما حصل في عدن ليس خروجاً عن الطاعة السعودية بقوله إن «موقفنا من أحداث عدن داعم للتحالف بقيادة السعودية»، فإن ذلك يستبطن نفاقاً ومحاولة لتأجيل الانخراط في المواجهة مع المملكة، إلى حين التأكد من خلوّ محمد بن سلمان من آخر أنيابه. والجدير ذكره أن المملكة سارعت عبر وسائل إعلامها إلى استنكار أحداث الأحد الدامي في عدن، باعتبارها «تمرداً»، مثلما نشرت صحيفة «عكاظ» الرسمية في عنوانها العريض بشأن اليمن.
إذن، ادّعاء التوافق والتحالف والرؤية المشتركة ليس له مكان في جنوب اليمن، حيث يدور صراع معقد بين الحليفين السعودي والإماراتي على مصالح البلدين المتناقضين والمتباعدين في الحاضر والمستقبل، وكذلك على الدور والطموح والوظيفة. ولئن كان تحالف الرياض وأبو ظبي ضد «أنصار الله» أملته مصلحة مشتركة قائمة على الادعاء أن الحركة تشكل تهديداً وجودياً للجانب الشمالي من الجزيرة العربية، إلا أن تقاسم المغانم يبعد بين الطرفين، وكلما قربت الاستحقاقات السياسية تظهّر الاختلاف والتباين. وما يحول دون انفكاك التحالف إلى الآن هو استمرار الحرب على الشمال، وارتباط مصير القوات الإماراتية المحتلة للجنوب بمصير تلك الحرب.
ما حصل في عدن وما سيحصل في المستقبل يرتبط ارتباطاً وثيقاً برؤية محمد بن زايد لمستقبل دولته، وطموحه إلى إبقائها في موقع الريادة المميز على المستويين الاقتصادي والتجاري، والذي يأمل أن يؤمن له موقعاً مماثلاً على المستويين السياسي والأمني في المحيط، وإن كان طموحه لا يقتصر على الإقليم فقط. فالخارطة الجيو ــ سياسية للمنطقة لا توفر متطلبات طموح ابن زايد من دون جنوب اليمن، فكيف إذا كان يعتقد أن المحافظات الجنوبية من اليمن تشكل تهديداً مباشراً وقريباً لمشاريعه ومخططاته وبقاء بلده في موقع الريادة الاقتصادية والتجارية، إذا ما توافرت الفرص لليمن للاستفادة من موقعه الحيوي، بسواحله وموانئه وجزره ومضيقه، وكذلك في ثروته الطبيعية (نفطه وغازه)؟ وكما يسكن في خلد آل سعود أن خيركم وشركم من اليمن، سكن كذلك في خلد آل زايد موقع اليمن، وخشيتهم من أن يحوز مكانة دبي وأبو ظبي مع مميزات إضافية.
انطلاقاً من هذا المنظور، يأتي قبوع الإمارات في جنوب اليمن على كنز غير قابل للنفاد، وقيمة استراتيجية هي مطمع القوى العظمى في العالم، مع الإشارة إلى أن بريطانيا العظمى تنعمت بخيرات هذا البلد وموقعه لأكثر من 120 سنة. ومع وجود الدافع والامكانات والارتباط بالغرب، وبالتحديد بالولايات المتحدة الأميركية، ولعب أدوار وظيفية في مشروعها (وصف وزير الدفاع الأميركي السابق، الجنرال جيمس ماتيس، الإمارات بـ«إسبرطة الصغرى»). وفي ظل الشعور بالتفوق والقدرة والمكانة الاقتصادية، وليكتمل الطموح إلى الخروج من عقدة النقص في ما يتصل بالبعدين التاريخي والحضاري، وجدت الماكينة الإعلامية الإماراتية حلاً لتلك المعضلة، عبر ادعائها اكتشاف آثار فرعونية في صحرائها، كإشارة إلى أن الإمارات هي محطة تجارية تاريخية، ومنبر لتواصل الحضارات. وعليه، يصير التفكير في احتلال جنوب اليمن منطقياً، والتصرف بموانئه وجزره ومضيقه مشروعاً، وحقاً أقرّه مجلس الأمن وفق القرار 2216 للإمارات، وغنيمة ومكسباً يُرفض أن ينازع أبو ظبي عليه الخصوم والحلفاء، وحتى سكان البلاد.

السعودية لا يناسبها إلا النصر الكامل في اليمن


أما المصلحة السعودية التاريخية في اليمن، بما فيه جنوبه، فتجليها الخشية الدائمة من استفادة البلد من قدراته الطبيعية والبشرية وموقعه الجغرافي الحيوي وإطلالته على البحار العميقة، بالإضافة إلى مضيق باب المندب. وقد عملت السعودية طوال العقود الماضية على إبقاء اليمن تحت وصايتها وهيمنتها، ضمن سياسة «القوائم المثلثة» المعروفة لدى نخب الشعب اليمني (إذلال، إفقار، تجهيل)، إذ لا يمكن في اعتقادها إخضاع اليمن إلا بتلك القوائم، وما الحرب عليه إلا لخروجه وتمرده على الوصاية والهيمنة وسيره باتجاه تحصيل سيادته وقراره المستقل، مع الحفاظ على العلاقات الأخوية وحسن الجوار.
لكن السعودية لا تكمن مشكلتها في العلاقات الأخوية، أو في حسن الجوار، بقدر ما ترى أن خروج اليمن من فلكها، واستفادته من موارده وموقعه وشعبه، يعني يمناً قوياً ومنافساً، يمتلك قدرة اتخاذ القرار على المستوى الوطني وفي المنظومة العربية، بل إن موقعه يؤهله للعب دور في القرن الأفريقي والبحر الأحمر، وصولاً إلى نصرة القضية الفلسطينية على غرار ما كانت تفعل دولة «جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية» أو اليمن الجنوبي (الاشتراكي) في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، باستضافتها العديد من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية للتدريب، وتشكيلها محطة لوجستية للعمل الفدائي.
إن ادعاء البعض أن السعودية خسرت الحرب، وهي بحاجة إلى إيجاد مخرج يحفظ ماء وجهها، لهو تبسيط للنظرة السعودية تجاه اليمن. فالرياض، وفق رؤيتها (الغريزية)، لا يناسبها إلا النصر الكامل، أياً كانت التكلفة، وهذا ما أعاد تأكيده منذ أيام السفير السعودي في القاهرة، أحمد عبد العزيز قطان، بقوله إن «اليمن بالنسبة للسعودية خط أحمر، وحماية حدود المملكة واجب، ولو أنفقنا كل ما نملك من أرصدة».