الغزو التركي لمنطقة عفرين السورية، لم يتلقّ الضوء الأخضر الروسي فحسب. الروس كانوا أكثر كرماً مع الأتراك كي يشعلوا محركات دباباتهم التي انتظرت طويلاً موعد تصفية الحسابات مع «الوحدات» الكردية، واحتواء المشروع الكردي قبل أن تبتلّ خريطته بمياه الساحل السوري، ويكتمل مع وجود المنفذ البحري ــ في أسوأ سيناريو لتركيا ــ كيان كردي قابل للحياة.
وترى يوسف أن «تركيا عمّقت الأزمة في سوريا وموّلت الإرهاب، سواء من طريق داعش أو جبهة النصرة، وعندما فشلت أرسلت جيشها لاقتحام عفرين».
إلى أين تذهب معركة عفرين؟ تجيب الرئيسة المشتركة لـ«الهيئة التنفيذية لإقليم شمال سوريا» فوزة يوسف: «سنقاوم بكل ما لدينا من قوة كي لا يحتلها الأتراك... ولن تسقط عفرين إلا إذا استشهدنا. ومن يزعم أنه وطني سوري، فعليه أن يقف ضد الاحتلال». وحول رفض دمشق الهجوم التركي وإدانته، تقول إنه «مجرد كلام لا ترجمة فعلية له على أرض الواقع. ومن يرفض الاحتلال يجب أن يُترجِم الرفض على الأرض. ونحن كقوات سورية سندافع عن أرضنا».
لا تلقي فوزة يوسف بالاً لمواقف روسية قديمة لا شائبة تركية عليها. فقبل أن ينزع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أول من أمس، قفازات الديبلوماسي ليتهم رفاقها بـ«الانفصالية» واختيار الخندق الأميركي، كانت موسكو لا تزال تراهن على ضم أكراد «الاتحاد الديموقراطي» إلى معسكرها.
ففي شباط من العام الماضي، استقبلت «المؤتمر الكردستاني السادس»، ووشّح ختامه امتداح نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف، «الجمهورية الفيدرالية» حلاً لسوريا، حتى وإن شاب المديح شرط موافقة جميع السوريين عليه. وتشرح يوسف: «لافروف والروس يعرفون أننا لسنا تقسيميين ولا انفصاليين، وقد طلبنا منهم التوسط لدى النظام ولعب دور لم يقوموا به في النهاية. ونحن لسنا من غادر قاعة المفاوضات... النظام كان يتهرب، والروس كانوا يماطلون. أما نحن فما زلنا مع الحل السياسي، لكن بضمانات دولية ودستورية بطبيعة الحال».
الأكراد يشعرون بالخديعة، وبأن ظهرهم في عفرين إلى الحائط، خصوصاً أن المحيط العربي والتركي والروسي والإيراني، كما الوسط السوري المعارض والحكومي، كلّه يعادي مشروعهم، ولو اختلف على الموقف من الغزو التركي. فالروس كانوا قد غافلوا حذرهم من أي صفقة مع الأتراك. وعندما أوصلت طائرة روسية من قاعدة حميميم في السابع عشر من تشرين الأول الماضي، قائد «الوحدات» سيبان حمو، إلى موسكو، سمع من وزير الدفاع سيرغي شويغو، وقائد الأركان فاليري غيراسيموف، تهويناً من شأن دخول قوات تركية إلى جبل الشيخ بركات الاستراتيجي في ريف حلب الغربي، على أنه مجرد انتشار تمليه اتفاقية «خفض التصعيد»، ولا شبهة غدر أو غزو لعفرين، فيما كان جحفل «غصن الزيتون» يُعدّ أربعة آلاف مقاتل خلف الخطوط التركية، لاقتحام المعقل الكردي السوري.

العلاقة مع الأميركيين ليست عضوية بل «تقاطع مصالح»

وترى يوسف أن عفرين التي يجري التضحية بها، هي دفعة روسية مسبقة للأتراك، في تبادل «يطاول مصالح اقتصادية مشتركة وقضايا تتعلق بالطاقة. وبإسقاط عفرين، تدفع تركيا المعارضة إلى مؤتمر سوتشي الروسي».
وتقول يوسف: «نحن حاورنا الروس بقدر ما حاورنا الأميركيين، منذ بداية الأزمة. وقصّة انحيازنا إلى أميركا غير صحيحة. ووجود الأميركيين في سوريا لا يرتبط بنا، بل بالسياسة الأميركية في المنطقة. وفي المقابل هناك اتفاق روسي ــ سوري لبقاء قوات روسية لنصف قرن في سوريا». وتضيف أن «مسألة حرس الحدود التي يجري الحديث عنها، موجودة منذ أعوام للدفاع عن أنفسنا ضد داعش، التي لا تزال قائمة. ولا توجد لدينا ضمانات سياسية ولا ميدانية، فحدودنا مع تركيا التي أتى منها الإرهاب طويلة جداً».
الأكراد في سوريا على مفترق طرق. فانحياز الروس أخيراً إلى الطرف التركي، في عملية تستهدفهم في عفرين، أسقطت من يدهم ورقة المناورة بين الأميركي والروسي، التي حفظت لهم الطريق إلى دمشق وانضباط أنقرة، حتى انطلاق «غصن الزيتون». خسر الأكراد بذلك القدرة على التحكم بعامل الزمن الضروي لثبيت مؤسسات «الإدارة الذاتية» كأمر واقع يفضي إلى مرحلة كيانية أعلى، وتعزيز سيطرتهم العسكرية على الموارد الاقتصادية والبشرية الكافية لتوفير شروط البقاء لأي كيان محتمل. الأميركيون أسهموا في إخراج المشروع الكردي من تقيّة الفيدرالية في توقيت لا يناسبه، خصوصاً بعد انتحار المشروع الكردي المجاور في «كردستان العراق»، بسبب عامل التوقيت والإقليم، واندحار «داعش».
من السذاجة الاعتقاد أن بضع مئات من الجنود الأميركيين هم من سيتولون، دون القوة العسكرية الكردية والرديف العشائري العربي، تحقيق الأهداف التي تحدث عنها وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، من بناء قوة حرس حدود إلى منع عودة «داعش»، واحتواء إيران واستنزاف حلفائها، وإسقاط النظام السوري. وهي أهداف لم تكن على أجندة الأكراد أصلاً، ولا مصلحة لهم فيها، ما يحوّل العلاقة الكردية ــ الأميركية إلى علاقة عضوية. لا توافق فوزة يوسف على عضوية العلاقة مع الأميركيين، لأن « تقاطع المصالح شيء، والعلاقة العضوية شيء آخر. اتفاقنا مع الأميركيين يتوقف على إنهاء داعش والقوى الإرهابية الأخرى، التي لا يزال خطرها موجوداً. نحن مستقلون في قراراتنا السياسية، ولو كانت مرتبطة بالخارج فكيف كنا سنطالب بوساطة ومفاوضات مع النظام؟ ألا يتناقض ذلك مع القول بالعلاقة العضوية؟ الاستراتيجية الأميركية لا ترتبط بقوات سوريا الديموقراطية، وسواء وجدنا أو لا، فالأميركيون سيوجَدون في سوريا».
وعند سؤالها: هل أنتم جزء من الأهداف الأميركية لاحتواء إيران أو إسقاط النظام؟ تقول يوسف: «نحن مستقلّون في قرارنا السياسي والعسكري. كل ما في الأمر أن النظام السوري والقوى الإقليمية لم يستوعبوا ذلك. لو كان النظام مالكاً لمشروع ديموقراطي، لاختلفت الأوضاع، لكنّ سوريا تحوّلت إلى مناطق نفوذ لا يمكننا التهرب منها، وهذا نتيجة لسياسة النظام ولا ينبغي أن يحمّلنا أحد المسؤولية عنها». وتشرح أنه «لو كان هدفناً مثلاً إسقاط النظام، لكنّا اتحدنا مع الائتلاف المعارض، ولكننا مارسنا سياسة النأي بالنفس وعدم الانحياز إلى أي قوة، وهدفنا هو تحويل سوريا إلى دولة ديموقراطية تضمن لجميع السوريين حقوقهم القومية والثقافية والسياسية».
العرض الروسي والسوري بتجنيب عفرين المعركة، لم يلقَ الموافقة الكردية المطلوبة على دخول الجيش السوري إلى عفرين، وانسحاب القوات الكردية منها. فوزة يوسف لا تريد تجزئة الحل، وتقول: «نحن نريد حلاً شاملاً لكل سوريا، بما فيها عفرين. الحلول الجزئية لا تكفي سوريا، لأنها ستكون خداعاً، وهذا ما حدث في حلب وجرابلس والباب. الحلول الجزئية ستجرّ القوى إلى تنازلات لا تنتهي، فيما الأزمة مستمرة. نحن مع الحل الكليّ، ولن نعود إلى الأوضاع التي سادت ما قبل 2011، فسوريا تحتاج إلى تحول وتغيير، ومشروعنا الفيدرالي لا قومي، بل ديموقراطي لكل السوريين، بمن فيهم عرب الرقة وعرب دير الزور وعرب الشام والدروز والعلويون».
أما ألّا يجد المشروع الفيدرالي نصيراً له بين القوى العربية الوازنة، وأن يبقى من دون أي مستقبل إذا لم تفرضه قوة خارجية، وأما ألا يتصدى حزب أو كتلة شعبية لحمله سوى الأكراد، فلا شيء يثني فوزة يوسف عن اعتباره المشروع الذي لا يضاهيه أي مشروع آخر في انطوائه على التسوية الأفضل. وتشرح أن «هناك تشتتاً في آراء السوريين، وإذا ما اتفقوا على الدولة المركزية، فلا يعني أن هذا هو الحل». ولكن، أليس الحل هو ما يتفق عليه الجميع بغضّ النظر عن المحتوى؟ تجيب يوسف: «لحد الآن لم تطرح أية جهة مشروعاً آخر، باستثناء ما نقوم نحن بطرحه، وعندما نرى طرحاً أكثر ديموقراطية مما نتحدث عنه، يمكن أن نناقشه. ولكن لن نقبل بالنقاش في قضية إعادة الدولة المركزية القومية، وإلا فسيكون علينا أن نتنكر لكل ما شهدته سوريا من تضحيات، من التظاهرات التي بدأت في درعا، وليس من القامشلي. والانفجار الذي شهدته سوريا لم يكن سببه الأكراد، بل الشعب السوري بأكثريته هو الذي يريد التغيير».