وضعت معارك إدلب الأخيرة فاصلةً في صفحة الخلافات بين تنظيم «القاعدة» و«جبهة فتح الشام/ النصرة». غير أنّ «البيت الجهادي» يبدو على موعدٍ مع إعادة ترتيب قريبة، يُرجَّح أن تدور عجلتُها مع أول التقاطة للأنفاس يتيحُها الميدان. وإذا كان طرفا الخلاف لا يستعجلان حسمَه، فإنّ الأمر مختلفٌ في حسابات أطراف أخرى، ولا سيّما الطامحون إلى «وراثة» أبو محمد الجولاني في رأس هرم «القاعدة» في سوريا.
ويبدو مفهوماً أن يتريّث زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري في إلقاء «الحرم الجهادي» على رجله (السابق؟) لأسبابٍ يفرضها «الوقار الشرعي» الذي يحرص الظواهري عليه حرصاً كبيراً. وعلى نحوٍ مماثلٍ، لا يبدو الجولاني مستعدّاً في المرحلة الراهنة لأخذ الأمور نحو تصعيد جديدٍ مع «أهم رموز الجهاد». في الوقت نفسه، تعجّ كواليس إدلب بـ«الجهاديين» الساخطين على الجولاني والساعين إلى كسر «كبريائه». ومع أنّ شكل حسم الخلاف بين الظواهري والجولاني لا يبدو واضحاً بعد، فإنّ الرأي الراجح عند معظم الرموز «القاعديّة» في سوريا هو أنّ عودة «النصرة» إلى حضن التنظيم الأم باتت مسألة مُستبعدة إلى حد كبير، وأن الحاجة صارت ملحّة إلى هيكلة جماعة قويّة تضمّ تحت جناحها كل الأذرع «القاعدية». ويدرك هؤلاء أنّ بلوغ هدفهم ليس أمراً يسيراً، لكنّهم يرون في عقد راية «القاعدة» في سوريا بيد زعيمٍ جديد «يستخلفه» الظواهري خطوةً أولى وشديدة الفاعليّة. وكان اسم حمزة بن لادن قد طُرح بقوّة في المراحل السابقة، استناداً إلى رمزيّة يمنحه إيّاها اسم والده، غيرَ أنّ افتقاد الشاب للخبرة عموماً والعلم بالسّاحة السورية على وجه الخصوص، يجعلُ من توليه مسؤوليةَ «الفرع الشامي لتنظيم القاعدة» مهمّة أكبر من قدراته. وتشير مصادر «جهاديّة» تحدّثت إليها «الأخبار» إلى «وجود طروحات عدّة يجري تدارسُها في هذا الشأن». وفي انتظار بتّ قيادة «القاعدة» مصير جناحها السوري، تجري المفاضلةُ بين خيارين رئيسيين جارٍ اعتماد أحدهما حالَ انقطاع آخر خيط مع الجولاني: اختيار شخصيّة أخرى تمتلك الخبرة اللازمة، أو اعتماد تسمية حمزة بن لادن مع «مجلس شورى» مكوّن من أصحاب الخبرة. وفي كلتا الحالين يبرز اسمٌ بعينِه للعب دور محوري في المرحلة القادمة، هو أبو ماريّا القحطاني. ويُحاجج المتحمّسون للقحطاني بأنّه كان من أوائل الداخلين إلى سوريا في «المرحلة التأسيسيّة» وقد عايشَ جميع أحداثها، ما عزّز خبراته السابقة التي كان قد حصّلها في العراق تحت إمرة أبو مصعب الزرقاوي (فاضل نزّال الخلايلة 1966 – 2006، مؤسس جماعة التوحيد والجهاد ومجلس شورى المجاهدين في العراق)، ثم أبو عمر البغدادي (حامد داود الزاوي مؤسس تنظيم الدولة الإسلامية)، فأبو بكر البغدادي (إبراهيم عوّاد البدري، الزعيم الحالي لداعش). في الوقت نفسه، تبرز آراء أخرى ترى أنّ «المنصب قد يكون أكبر من القحطاني، بسبب وجود مجموعات كبيرة مبايعة للقاعدة لم يسبق لها العمل معه، وخاصة الحزب الإسلامي التركستاني». ويظهر أصحاب هذا الرأي حماسة أكبر لشخص حمزة بن لادن، حتى ولو كان زعيماً صوريّاً «يملك ولا يحكم». وبرز اسم القحطاني في خلال معارك إدلب الراهنة بوصفه «أباً روحيّاً» لمجموعة «قاعديّة» انخرطت في المعارك قبل نحو أسبوع وهي «جيش الباديّة». وخلافاً لما تداولته مصادر عدّة من أنّ المجموعة المذكورة حديثة التأسيس، وأنّ ولادتها ترجع إلى عام 2015، وكان من أبرز قادتها أبو تراب الحموي، وهو واحد من «قادة النصرة» الذين قُتلوا في أيار 2016 إثر غارةٍ استهدفت مطار أبو الضهور العسكري. وكان الحموي يشغل حينها منصب «الأمير العسكري لقطاع البادية». وشُكّل «جيش البادية» بوصفه واحدةً من المجموعات التابعة لـ«جبهة النصرة»، وخاض كثيراً من المعارك تحت رايتها، بدءاً بمعارك ريف حلب الجنوبي أواخر عام 2015، مروراً بمعارك «الكليّات» في حلب. وإبّان حملة الاعتقالات التي شنّتها «النصرة» على عدد من «القادة القاعديين» في تشرين الثاني الماضي، علّق «جيش البادية» عمله مع «هيئة تحرير الشام». وبعد كلمة الظواهري الأخيرة التي نقلَت سخطَه على الجولاني إلى العلن، سارع «جيش البادية» إلى الانشقاق عن «الهيئة» وتجديد «البيعة» لتنظيم «القاعدة». واتّخذت مجموعات أخرى الخطوة ذاتها، ومن أبرزها جماعة «جند الملاحم» (المتشكّلة على أنقاض «جند الأقصى») التي كان أميرها أبو عبد الرحمن مكّي (سعودي الجنسية) أحد معتقلي حملة الجولاني. ودخل «جيش البادية» و«جند الملاحم» على خط المعارك الأخيرة في إدلب وريف حلب الجنوبي التزاماً لتوجيهات تنظيم «القاعدة». وتشير مصادر «جهاديّة» إلى أنّ «الطرفين قد يعلنان اندماجهما رسميّاً في أي لحظة». ويقاتل الطرفان في الوقت الراهن باسم «تنظيم القاعدة» بعد أن عُقد اتفاق بينهما وبين «هيئة فتح الشام» قضى بإطلاق الجولاني سراحَ مُحتَجزيهما وردّ أسلحة كان جنوده قد صادروها من مخازن المجموعتين. ويؤكد مصدر «جهادي» لـ«الأخبار» أنّ «الأولوية في الوقت الراهن هي لصدّ العدوان عن إدلب، وقد اتُّفق على إرجاء أي خطوة أخرى». وثمّة مصادر معارضة تقلّل من شأن «جيش البادية» وتؤكد أنّ عديد مقاتليه لا يتجاوز العشرات. ومع ذلك، لوحظ في خلال الأيام الماضية تكثيف النشاط الإعلامي لهذا الكيان الذي أصدر مقاطع مصوّرة عدّة منجزة بحرفيّة. وتقول معلومات متقاطعة إنّ «أبو ماريا القحطاني هو القائد الفعلي له»، رغم عدم إعلان ذلك رسميّاً.
أبو ماريّا القحطاني
ميسر علي الجبوري من مواليد حزيران 1976، ينحدر من بلدة هرارة العراقية (محافظة نينوى)، انضمّ إلى تنظيم «قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين» بعد الغزو الأميركي للعراق، وتحديداً في عام 2004 تحت إمرة الزعيم «الجهادي» البارز أبو مصعب الزرقاوي. تسلّم منصب «شرعي الموصل» إبّان إعلان «دولة العراق الإسلامية عام 2006». لعب دوراً أساسيّاً في اجتذاب «البيعات العشائرية» للتنظيم الوليد، وتقلّد مناصب عدّة فيه، أبرزها «إمارة الحسبة في الموصل». اعتُقل عام 2008 في العراق، وأطلق سراحه في أواسط عام 2010. دخل سوريا برفقة الجولاني للمساهمة في «تدشين شرارة الجهاد في الشام». وضعته الولايات المتحدة على «لائحة الإرهاب» بموجب الأمر الرئاسي التنفيذي رقم 13224، الصادر في 11 كانون الأول 2012. اعتباراً من منتصف عام 2012، أصبح القحطاني «أميراً عاماً لجبهة النصرة في المنطقة الشرقية»، من خلال «مجلس شورى مجاهدي الشرقية» الذي خاض معارك عنيفة مع تنظيم «داعش»، حُسمت لمصلحة الأخير. انتقل القحطاني بعدها إلى الجنوب السوري، حيث حاز منصب «الأمير العام لجبهة النصرة» هناك. في أواخر عام 2015 انتقل من درعا إلى إدلب بطريقة اكتنفها الغموض، ويُرجح أنها حصلت مروراً بمناطق سيطرة الدولة السورية.