■ ترون أن المملكة المغربية مركز الثقل في الانتشار العسكري الأميركي في بعض دول المغرب العربي، وأن المغرب شريك عسكري رئيسي للأميركيين في المناورات المشتركة التي ترعاها قوات «أفريكوم». هل نغامر بالتحليل إذا ما رجحنا حدوث تعاون أوثق بين الرباط وواشنطن في ظل هذه العقيدة الاستراتيجية الجديدة؟
رغم أن العلاقات بين الولايات المتحدة ودول المغرب العربي جيدة إجمالاً، فإن التخطيط الاقتصادي والسياسي لإدارة الرئيس دونالد ترامب لم ييدِ اهتماماً لافتاً بهذه الدول حتى الآن.

ويغلب الانسجام على علاقات الأميركيين بهذه الدول المغاربية الثلاث: تونس وليبيا والمغرب. لكن الوضع مقلق لواشنطن في ليبيا بسبب انتشار تنظيم «داعش»، وفي تونس حيث يحتمل أن يرجع إليها نحو ألفين إلى ثلاثة آلاف مقاتل، بعد هزيمة المجموعات الإرهابية في سوريا والعراق. يرى الاستراتيجيون الأميركيون أن المقاتلين التونسيين العائدين يشكلون تهديداً خطيراً. لكنْ ثمة شكوك في وجود قاعدة عسكرية أميركية سرية في تونس للتصدي لهؤلاء. هذا التهديد الأمني مجرد ذريعة يستخدمها الأميركيون لتشييد قاعدة عسكرية جديدة في أفريقيا.
أما في ليبيا، فالولايات المتحدة حاضرة ميدانياً، لكنها ألقت مسؤولياتها على عاتق كل من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، إذ تتعاون قوات هذه الدول بصورة وثيقة مع القوات المسلحة الجزائرية في مكافحة عناصر «داعش» في ليبيا. لكن يبقى المغرب الحليف المقرَّب إلى الولايات المتحدة، وإن كان من غير المؤكد أن يستمر هذا تحت إدارة ترامب. فالأسئلة المطروحة عما إذا كانت الرباط ستنال المساعدة العسكرية الأميركية نفسها، أم سينفذ تهديد ترامب بمعاقبة الدول التي صوتت في الأمم المتحدة ضد إعلان ترامب حول القدس، تنتظر الأجوبة.
من المهم الانتباه إلى أن الولايات المتحدة تقدم هذه المعونة العسكرية منذ وقت طويل. ولولاها، لكانت القوات الملكية المغربية ستندحر خلال المواجهات التي خاضتها في الصحراء الغربية ضد أفواج جبهة بوليساريو في السبعينيات. كما لا يجوز أن ننسى الدور الفعال الذي قامت به فرنسا على المستويين العسكري والسياسي منذ التوقيع على اتفاق وقف النار بين المغرب و«بوليساريو» عام 1991، وهي ما انفكت توفر الدعم الملائم للرباط في مجلس الأمن، لمنع تنفيذ قرارات الأمم المتحدة في تنظيم استفتاء على حق تقرير المصير للصحراويين.
مع ذلك، ينبغي أن نضيف أن تدريب الضباط المغاربة يجري بانتظام في الولايات المتحدة وتموله وزارة الدفاع هناك. كما أذنت واشنطن للمملكة بشراء طائرات حربية من طراز «إف 16» وغيرها، عبر قروض مصرفية تضمنها... حتى الجدران الضخمة في الصحراء الغربية كانت قد شيدت بمساعدة الولايات المتحدة. لذلك، حينما أعلنت إدارة جورج بوش الابن تشكيل قوات «أفريكوم» عام 2007، كان المغرب مستعداً من دون شك لاستقبالها فوق أراضيه، وطلب مقابل ذلك رعاية أميركية لحل سياسي يقوم على ضم إقليم الصحراء الغربية إلى أراضيه، لكن واشنطن لم تكن راغبة في استفزاز الجزائر التي كانت قد أصبحت شريكاً مهماً لها في محاربة الإرهاب. على أي حال، المقر الدائم لـ«أفريكوم» لا يزال في مدينة شتوتغارت في ألمانيا، رغم أن مركز العمليات التابع لها موجود في القاعدة الأميركية الضخمة في معسكر Lemonnier في جيبوتي.

■ كيف تصفون مستوى التعاون العسكري الجزائري ــ الأميركي، وكيف سيتأثر بـ«استراتيجية الأمن القومي الجديدة»؟

يبدو أن الأميركيين قد أيدوا المساعي الجزائرية في مالي، بغض النظر عما تفعله فرنسا هناك، وكذلك يتابعون المقاربة الجزائرية في عملية التوافق بين القوى الليبية المنقسمة بين حكومتي طرابلس الغرب وبنغازي. وبالنسبة إلى لعبة باريس في دول منطقة الساحل (مجموعة الدول الخمس التي تستثني الجزائر)، يمكن أن نتوقع تقارباً بين الجزائر وواشنطن يتعدى المجال العسكري الأمني. لكن يجب أن نبقى حذرين من هذا التوقع، لأن الجزائريين يرتابون دوماً من السياسة الأميركية، فهم رغم مساهمتهم الفعالة في مكافحة الإرهاب، لم يحصلوا من الأميركيين على أي مكاسب، وأكبر دليل على ذلك قضية الصحراء الغربية.
التعاون الجزائري ــ الأميركي في المجال الأمني هو عموماً في نطاق تبادل المعلومات، مع أن العسكريين الجزائريين ساهموا في مناورات «الشراكة لمكافحة الإرهاب عبر الصحراء» التي شرع الأميركيون بتنظيمها في 2005، وبعدها في مناورات «Flintlock» التي تجريها «أفريكوم». وبما أن الضباط الجزائريين اكتسبوا خبرات متميزة في مكافحة الإرهاب، يريد الجيش الأميركي الاستفادة من ذلك.
رغم كل هذا، امتنعت الولايات المتحدة عن تسليم أسلحة هجومية للجزائر حتى لا تخلق عدم توازن قوة (إقليمي) يكون لمصلحة الجزائر، التي لا تزال تشتري أكثر من 70% من معداتها من روسيا، المزوّد التقليدي لها، علماً بأنها تشتري من الصين والبرازيل وتركيا وإيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة (سي 130، وطائرات مراقبة...) وأيضاً من فرنسا، وذلك من أجل تجنب الاعتماد على طرف واحد.
من جهة أخرى، تشكّل العقيدة الجزائرية القائمة على رفض التدخل خارج الحدود نقطة خلاف حالياً بين الضباط الشباب في الجيش الوطني، وبين القيادة التي تعاني بسبب تقدمها في العمر. فالأوائل يريدون التدخل من أجل ضمان أمن البلاد، فيما يريد «الحرس القديم» الحفاظ على السياسة الدفاعية. كما أن حالة غياب اليقين بشأن خليفة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة تمنع الجيش من اتخاذ أي إجراء من شأنه المخاطرة بتوريط القوات في مستنقع الساحل. وعليه، يواصل الجيش تعزيز حدود البلاد الممتدة على مسافة نحو 7 آلاف كيلومتر. مع ذلك، شنت القوات الجزائرية بعض العمليات (المنسقة) في تونس، وكذلك مع القوات الأجنبية في ليبيا، في خانة الاستثناءات النادرة. إنّ الأفضلية للسلطات الجزائرية ليست في الوساطة من أجل عودة السلام في ليبيا ومالي فحسب، لكن أيضاً في تجنب تدخل أجنبي جديد في ليبيا (لم يعارض الجزائريون التدخل في مالي لأنهم اعتبروه قانونياً مثله مثل التدخل الروسي في سوريا).


مواقف الرئيس
الأميركي قد تقوّض
الشراكة مع دول
المغرب العربي


■ هل تعتقد أنّه يمكن لمواقف ترامب الأخيرة، ولا سيما في ما يتعلق بالقدس، أن تكون لها تداعيات على صعيد التعاون الاستراتيجي مع الدول المغاربية؟

بطبيعة الحال، كان لتحرّك ترامب في ما يخص القدس أثر في دول المغرب العربي على مستوى الحكومات، لكن لا ينبغي انتظار أشياء كبيرة بسبب الضعف وافتقاد الوحدة. لدى الأتراك والإيرانيين الكثير ليربحوه في ظل خمول الأنظمة العربية، كما أنّ السعودية متواطئة في هذه المسألة، ولهذا السبب يُقال على مستوى الدول العربية إنّ قرار ترامب ليس بنّاءً. لكنّ المشكلة التي سوف تطرح نفسها عاجلاً أو آجلاً تتمثل في ردّ الشارع، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى انجرافات أكبر من تلك التي حققها «الربيع العربي». حتى الآن، لا يمكن التصديق ببساطة أن الولايات المتحدة ستبدأ معاقبة جميع الدول العربية والإسلامية التي عارضت قرارها، لكن ترامب سيحصد ما بذره بهذا القرار.

■ يميل الروس نحو تطوير علاقتهم مع دول المغرب، فهل بإمكانهم أن يُقلقوا الترتيبات الجيوستراتيجية الجديدة لواشنطن؟

من الواضح أن «روسيا بوتين» ستكون أقل تخوفاً من الصين، لأن موسكو تريد أن تصبح قوة عالمية وينبغي عليها بذلك إظهار عضلاتها والدفاع عن مصالحها. هي تقيم علاقات ممتازة مع الجزائر، كما يمكن للسلام في ليبيا أن يسمح لها بالعودة. لكن لمعرفة واضحة، ينبغي انتظار إعادة انتخاب فلاديمير بوتين رئيساً ومراقبة السياسة المتوسطية لروسيا.

■ لا تمتلك الصين حتى الآن سوى قاعدة واحدة في جيبوتي. هل يخاطر التوجه الأميركي الجديد بجرّ بكين نحو سباق لغزو المغرب العربي؟ هل هناك احتمال لوجود منافس استراتيجي في شمال أفريقيا؟

حتى الآن، تظل القاعدة العسكرية الوحيدة للصينيين خارج أراضيهم في جيبوتي، ولا يبدو لي أن الصين سوف تدخل في سباق تسلّح من شأنه عرقلة برامجها للتنمية الاقتصادية ولتحديث البلاد. لن يكون لبكين وجود عسكري في دول المغرب العربي إلا إذا دعتها إحدى هذه الدول، وهذا غير مرجح. سوف تنافس الصين الولايات المتحدة في الاقتصاد (الدبلوماسية الاقتصادية) عبر «مبادرة الحزام والطريقBelt & Road Initiative» و«طريق الحرير البحري Maritime Silk Road» الذي يخترق البحر المتوسط، ومن المتوقع إقامة منشآت عند الموانئ في مصر والجزائر لهذا الغرض. المغرب وقّعت أيضاً اتفاقات مع الصين (مشروع ضخم في طنجة).
ستواصل الصين زحفها الاقتصادي في أفريقيا وأي مكان آخر مع تجنب الوقوع في مواجهة مع الولايات المتحدة. لكن أمام التهديد الأميركي، قد تأخد دول أفريقية مسافة وتقترب تدريجياً من الصين وروسيا في وقت تسير فيه العلاقات مع أوروبا بإيجابية.

■ هل تمتلك واشنطن في الوقت الحالي الوسائل الكافية لتحقيق طموحاتها في إقامة وجود عسكري قوي ومركزي في أفريقيا، وبالتالي تحييد المنافسين الاستراتيجيين؟

لا تشكل وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركية دائماً الانعكاس الحقيقي للسياسة الخارجية للولايات المتحدة (فهي ببساطة مطلب من الكونغرس منذ عام 1986). لذا، لا ينبغي الاعتماد على هذه الوثيقة لتحليل ولاستشراف السياسة الخارجية الأميركية، وخاصة في ظل حكم ترامب الذي تعاني خلاله هذه السياسة خللاً وظيفياً (نذكر مثلاً تصريحات الرئيس الأميركي المتناقضة مع تصريحات وزير خارجيته أو البنتاغون. كما نذكر التوترات ذات المغزى مع الدول الحليفة أيضاً، وذلك حتى إن لم يتأثر سلباً، بصورة أو بأخرى، «حلف شمال الأطلسي» بسبب استعادة روسيا ثقلها على الساحة الأوروبية).
الولايات المتحدة بصدد عسكرة أفريقيا بذريعة محاربة «الإرهابيين»، وهي تطوّر قواعدها في أنحاء القارة (تبقى قاعدتها في جيبوتي الأكثر إثارة). وهناك أيضاً العديد من قواعد الطائرات من دون طيار مثل تلك الموجودة في إثيوبيا والنيجر وأماكن أخرى. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو عن معرفة الكيفية التي ستتمكن بها هذه الإدارة التي تجاهلت أفريقيا منذ أكثر من عام، والتي خفضت برامج المساعدة، من تأكيد هيمنتها على القارة. يبنغي أن نشير أيضاً إلى أنه في الاستراتيجية الجديدة (2017)، تحتل أفريقيا المكانة الأخيرة في أولويات السياسة الخارجية لحكم ترامب. لذلك: كيف يمكن لإدارة تلوّح دائماً بالتهديد حتى ضد دول صغيرة أن تكتسب ثقة الأفريقيين وتنافس الصينيين الذين يقدّمون المساعدة والتنمية من دون أي شروط؟ «القوة الناعمة» للولايات المتحدة سوف تعاني بالتأكيد جراء ذلك.