نهاية عام 2017، أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي نصر بلاده «النهائي» على تنظيم «داعش». هذا الانتصار جاء بعد سيطرة القوات العراقية، بمختلف صنوفها، على طول جغرافيا للبلاد، خاصّةً مع وصول قوات «الحشد الشعبي» إلى الحدود العراقية ــ السورية، وسيطرتها على معظم الخطّ الحدودي هناك، كاسرةً بذلك «خطوطاً حمراء» أميركية رافضة لمثل هذه الخطوة.
تداعيات وصول تلك القوات إلى «المنطقة المحظورة» أميركيّاً، ودورها الفعّال في تأمين خط «محور المقاومة» من طهران إلى بغداد وصولاً إلى بيروت، مروراً بدمشق، لا يزال سارياً في الأروقة السياسية العراقية، ذلك أن بعض القوى تضغط باتجاه انسحاب تلك القوّات لأسبابٍ عدّة، استناداً إلى موقف الأميركي ــ الإسرائيلي ــ السعودي الرافض لوجود «حلفاء إيران» غربي البلاد، إلى جانب بعض الخطابات الانتخابية الرافضة لمثل هذا الوجود هناك، للحفاظ على «اقتراعٍ حر».
سلوك قيادة «الحشد» في التعامل مع هذه المعضلة، يشي بأنها غير آبهةٍ لنقاشٍ سياسي «عقيم»، خاصّةً أن قرارها النهائي مردّه العبادي، وإن كان في بعض جوانبه متآلفاً مع التوجهات الأميركية، وغير قادرٍ على الخروج عن طوعها. هذا «الأخذ والرد»، الذي لا يزال قائماً، يساهم في بعض جوانبه بخلق هامشٍ للمسلحين، يسمح لهم بمناورة تقود إلى مواجهةٍ مع القوات العاملة في غرب البلاد، فتكون الأخيرة ضحيّة للتجاذبات، في وقتٍ يستدعي استنزاف القوات معالجة دقيقة لهذه المعضلة.

بروز «أصحاب الرايات البيضاء» في محيط قضاء طوزخورماتو

وبين الانتصار على «داعش» والقضاء عليه، والحذر من عودته مجدّداً، ثمّة من يقول إن التنظيم قد انسحب إلى الداخل السوري، فيما يصرّ آخرون على أن المسلحين لا يزالون ضمن الأراضي العراقية على شكل مجموعات «غير مترابطة» تؤدّي مهمّات أمنية ــ عسكرية، في عودةٍ إلى أسلوب التنظيم قبل حزيران 2014، تاريخ إعلان «الخلافة».
عمليات إرهابية لا تزال تهزّ «بلاد الرافدين» ذات أشكالٍ مختلفة (تفجير انتحاري، سيارة مفخخة، اغتيال، غزوة...)، تحمل رسائل عدّة، ذلك إن قوربت من ناحية مكانها وزمانها من جهة، والمستهدف والأسلوب من جهةٍ أخرى. وإذا وضعت تلك العمليات ــ منذ الحديث عن اقتراب سقوط التنظيم (صيف 2017) ــ على شريطٍ زمني لكان أخطر تلك العمليات وأكثرها دلالةً تفجير «مطعم فدك»، في محافظة ذي قار جنوبي البلاد، الذي أدى إلى مقتل وجرح عشرات المدنيين والعسكريين. رسالةٌ أراد منها التنظيم تبيان قدرته على خرق الحواجز الأمنية، والوصول إلى أي نقطةٍ يريدها جنوبي البلاد، بوصفها منطقة «آمنة».
ولا يمكن قراءة ذلك التفجير بمعزل عن العمليات الأخرى، التي باتت بشكلٍ أسبوعي تضرب مختلف أنحاء البلاد، إذ استفاد المسلحون من أزمة بغداد ــ أربيل، على سبيل المثال، لتنفيذ عمليةٍ في أحد أسواق كركوك، إلى جانب ظهور جماعة «أصحاب الرايات البيضاء»، إلى جانب العمليات الأخرى في «حزام بغداد»، أو في محيط عاصمة «الخلافة» السابقة، الموصل.
وما يثير القلق، هو «الغزوات» التي يقودها «داعش» على خطوط صدّ «الحشد» والقوى الأمنية، انطلاقاً إمّا من شرقي مدينة دير الزور السورية، باتجاه الحدود أو من بعض البؤر والمناطق التي لم تتمكّن القوات الأمنية من تطهيرها بشكلٍ كامل، ليس في غرب البلاد فحسب، بل في محافظات صلاح الدين، نينوى، الأنبار، كركوك، ديالى (ذات التنوّع الطائفي)؛ أما أبرزها، فمنطقة الجزيرة الواقعة على ضفاف نهر الفرات، في المثلث الواقع بين محافظات صلاح الدين ونينوى والأنبار، وهي منطقة ذات طبيعة جغرافية صعبة، معظمها صحارى ذات مساحاتٍ شاسعة.
عملياً، لم يقضِ العراق على «داعش» نهائياً. يصف مصدر أمني عراقي في حديثه إلى «الأخبار»، أن بغداد تمكّنت من استعادة المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم، لكنها «لم تقضِ عليه نهائياً، بل قضت عليه ظاهرياً». فـ«المشكلة تتفاقم في مسارين: في الأوّل تجذّر أفكار داعش في المناطق التي سبق أن كان فيها» يضيف. وقد اتضح ذلك مع بروز اسم جماعة «أصحاب الرايات البيضاء» في محيط قضاء طوزخورماتو، وتشكيلها تهديداً حقيقيّاً للأهالي هناك. أما في «الثاني، فحاجة بغداد الكبيرة لجهدٍ استخباريّ ضخم لملاحقة الخلايا النائمة، التي يمكن أن تستعيد عافيتها وتتحد في أي ظرف تراه مناسباً»، وهو أمر قد عبّر عنه في أكثر من معرض كُلّ من رئيس الوزراء حيدر العبادي، ووزير داخليته قاسم الأعرجي. هذه الخلايا النائمة على طول مساحة العراق، لا يمكن معالجة عملها المتّسم بطابع أمني، إلا من خلال «الجهود الأمنية وبالتعاون مع المواطنين»، وفق مصادر الداخلية، التي تشير في حديثها لـ «الأخبار»، إلى أن «عمليات داعش مستمرة ما لم توضع خطّة واضحة المعالم لمواجهة تلك الخلايا».
(الأخبار)