رام الله ــ الأخباربينما كانت كبرى الصحف العالمية ووسائل الإعلام تركز على اعتقال الشابة الفلسطينية عهد التميمي، وتشرح تفاصيل نشأتها وطبيعة نضالها وتحديها جنود العدو، وأيضاً تسعى إلى أن تلتقي والدها وتتيح له منبراً كي يتحدث، خاصة بعد اعتقال زوجته وإحدى قريباته، كان الإعلام الرسمي للسلطة الفلسطينية يكتفي بالتغطية التقليدية التي تقوم على نشر أخبار الأحداث ووصفها، من دون أي تغطية خاصة أو موجة مفتوحة، مع أن النموذج الذي يقدمه آل التميمي من ناحية أو أخرى يطابق مفهوم المقاومة الشعبية والسلمية، على اختلاف المنطلق الذي تنادي منه السلطة، خاصة أنها صاحبة تجربة في «الرد» على استشهاد زياد أبو عين في إطار مشابه.

اعتقال التميمي مرّ على الشريط الإخباري في «تلفزيون فلسطين» كخبرٍ اعتيادي، وكذلك الحال مع «الوكالة الرسمية للأنباء» (وفا) وإذاعة «صوت فلسطين»، فيما أبرزت الوسائل الثلاث خبر «اتصال الرئيس محمود عباس» بوالد عهد كخبر رئيسي في بداية النشرات. أيضاً، مرت قصة التميمي مختزلة في «تحية» قدمها اللواء جبريل الرجوب خلال برنامج حواري عرضه التلفزيون الرسمي، لكنها أيضاً نالت انتقاداً بسبب التعبير الذي استعمله الرجوب.
أما على صعيد إنتاج فواصل قصيرة عن التميمي، في ظل أن زوايا قصتها وعائلتها كثيرة ولها مشاهد مصورة أيضاً، فهذا لم يرَ النور على الشاشة الرسمية التي ركزت في بعض أخبارها على ذكر أن العائلة مناضلة وتتصدر المسيرات السلمية الأسبوعية منذ سنوات طويلة في قرية النبي صالح قرب رام الله. ومع أن عهد التميمي قيد التوقيف والمحاكمة، لم يستثمر إعلام السلطة المشهد للحديث عما يعانيه عشرات الأسرى الأطفال في السجون الإسرائيلية، مع أن اعتقالها فرصة لتناول قضية الأطفال الأسرى بصورة شمولية، لكن لم تخصص حتى حلقة واحدة عن الموضوع. كذلك فإن الإعلام الفلسطيني عامة والرسمي خاصة يميل في قضية الأسيرات إما إلى أن يركز على قصة واحدة مؤقتاً وفق نبض الشارع ليتمكن من اللحاق به، وإما أن يتناول الموضوع بمناسبة موسمية سنوية كيوم الأسير الفلسطيني في شهر نيسان من كل عام.
على مدى سنوات ماضية، تبنّى الإعلام الرسمي خطاب الضحية، وصار من الصعب عليه التحول إلى خطاب المواجهة الشاملة، رغم أن السلطة نفسها أظهرت موقفاً يمثل فرصة للتصعيد والاستفادة من الرفض الشعبي لإعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بشأن القدس. من جهة ثانية، ركز إعلام السلطة على كون عائلة التميمي مناضلة، لكنه لم يتحدث مثلاً عن أن عهد لا تزال على مقاعد دراسة الثانوية العامة، وأن ما يحدث معها الآن يهدد بتأخير دراستها أو حرمانها هذا الحق، أي أنه حتى لم يستطع الدمج بين خطاب الضحية والمواجهة ليحاكي حقيقة الألم والأمل معاً، التي تقوم على أن صورة الفلسطيني المقاوم لا تتناقض مع صورة الفلسطيني الضحية الذي يجرم العدو بحقه
كل ذلك يقود إلى السؤال: كيف غطى الإعلام الفلسطيني الرسمي إعلان ترامب وتداعياته؟ في البداية، لم يولِ إعلام السلطة اهتماماً كبيراً للخلفيات التي سبقت إعلان ترامب القدس عاصمة للعدو، بل بدأ التركيز على الحدث انطلاقاً من التصريحات الرسمية لقادة السلطة، فبث تصريحاً مسجلاً ومقتضباً لعباس بعد إعلان ترامب، وحوّل أبرز الجمل الرئيسية فيه إلى عناوين. ولأيام، بقي المسرح الإعلامي هادئاً تماماً كالمشهد السياسي الرسمي، فلم تنطلق الدعوات للمسيرات فور قرار ترامب، وهذا يعود إلى تأخر الرد السياسي على الإعلان، إذ غابت الإجراءات الفورية العملية، فيما اكتفى عبّاس بالإشارة إلى عقد اجتماع لـ«منظمة التحرير» لمناقشة الوضع مع بقية الفصائل، ثم الأخذ بالإجراءات التي يفرزها الاجتماع، لكن حتى الاجتماعات العربية سبقت هذا الاجتماع، في حين أن الشارع سبقهم كلهم.
لجهة المضمون، لم يعرض إعلام السلطة التبعات لما يترتب على إعلان ترامب بقدر تأكيده أن القدس عاصمة لفلسطين، وأنه قرار فارغ من مضمونه ولن يغير شيئاً من الواقع، مع أن القرار الأميركي لا يحمل نعش «عملية السلام» فحسب، بل تنجم عنه أبعاد خطيرة لأنه سياسياً يعني اعتراف واشنطن بالسيادة الإسرائيلية الكاملة على شرقي المدينة وغربيها، ثم تشجيع مزيد من الدول على اتخاذ القرار نفسه، وهو ما سيفرض أمراً واقعاً في مسار أي مفاوضات.
لكن، بعدما قررت حركة «فتح» التي تقف على رأس السلطة حشد المسيرات السلمية واعتماد المقاومة الشعبية مع توجه بعض المسيرات إلى نقاط التماس، بدأ نوع من التغير في تغطية الإعلام الرسمي، لكن ضمن سقف محدد لا يمكن تجاوزه: التغطية فقط، لا تحفيز الجمهور أو إنتاج مواد صحافية تدفع الفلسطينيين إلى الخروج. على سبيل المثال، أنتج «تلفزيون فلسطين» فواصل إعلامية يظهر فيها كلمات مقتبسة من تصريحات سابقة لرئيس السلطة، كذلك استعمل أغاني ثورية غابت منذ زمن عن شاشته. وبينما تحسّنت متابعة المسيرات والمواجهات، على خلاف المرات السابقة، جاء التركيز في البث المفتوح (والمحدود) على بعض المسيرات في عدة مناطق، وتحديداً التي ترعاها فصائل «منظمة التحرير»، مثل مسيرات: بلعين، نعلين، المعصرة، النبي صالح.
اعتمد «تلفزيون فلسطين» على شبكة مراسلين من محافظات مختلفة في الضفة والقدس وقطاع غزة لتغطية المسيرات، وخرج المراسلون في موجات مفتوحة، لكن لغرضٍ واحد، هو إسناد دعوات «فتح» وإنجاح مسيراتها، فيما لم يلحظ المشاهد أي مسيرات لـ«الجهاد الإسلامي» و«حماس». أما البرامج الحوارية، فركّزت على فكرة الاحتجاج والتنديد، وذلك باستضافة قيادات سياسية من تيار المنظمة.
مع ذلك، كانت كلمة نائب رئيس «فتح»، محمود العالول، خارج السياق قليلاً، وهو ما استدعى من منسق أعمال حكومة العدو في الضفة وغزة الطلب من العالول التراجع عن تصريحاته أو تقديم تفسير واضح لما يقصده بجملة «كل أشكال المقاومة مشروعة»، رغم أن العالول لم يشر إلى الكفاح المسلح أو أي طريقة بعينها. وخاطب «المنسق» العالول بالقول: «تذكر أن الكلمات لها انعكاسات وأن عليك مسؤولية... ممنوع التفوه بتصريحات تندم عليها لاحقاً، أنصحك بتوضيح أقوالك».
وهذه المرة، لوحظ أنّ إعلام السلطة ابتعد عن «تسخيف المظاهرات» مقارنة بالهبة الشعبية عام 2015، فلم ينتقص من قيمة الحجر كأداة مقاومة خاصة الإعلام المكتوب، كذلك فإنه توقف قليلاً عن لعب دور الضحية بشكل مبالغ فيه، وركز على أن الشعب في مواجهة الاحتلال، وأنه قادر على إسقاط قرار ترامب بوحدته واحتجاجاته. لكن الذي يؤمن به الفلسطينيون أن كل ذلك ينتهي بضغطة زرّ، عندما تقرر السلطة خفض الموجة.