في مثل هذه الأيام، منذ سنواتٍ سبع (أواخر كانون الأوّل 2011)، خرجت القوات الأميركية من العراق بعد احتلالٍ دام سنواتٍ ثمان. يمكن اختصار العوامل المسرّعة «للخروج المذلّ» لتلك القوات في ثلاثةٍ: 1) موقف «حاسم» للمرجعية الدينية العليا (آية الله علي السيستاني) يرفض بقاء قوات الاحتلال. 2) ضرباتٌ قاسية لفصائل المقاومة ضدها. 3) إرادة سياسيةٍ «واضحة» لمعظم القوى، وعلى رأسها حكومة نوري المالكي، تطالب بخروجها.
يصف مرجعٌ سياسيٌّ كبير المشهد آنذاك: «لقد أخرجنا القوات الأميركية من الباب»، متأسّفاً في حديثه إلى «الأخبار»، من «عودتهم وبقوّة، من خلال شبّاك محاربة تنظيم داعش، نتيجة سياسة الحكومة الحالية (برئاسة حيدر العبادي)».
أحدث خروج القوات الأميركية «ثلمةً» في كرامة قيادتها، وهو أمرٌ لم يكن مستساغاً بالنسبة إليها. رواية «عودة» الأميركيين إلى الحضور الفاعل في الميدان العراقي، يراها البعض مع تصدّي العبادي لرئاسة الحكومة الاتحادية، المؤمن بضرورة «الاستعانة بالغرب ــ وتحديداً واشنطن ــ في الحرب على الإرهاب، والقضاء عليه».
بمعزلٍ عما جرى طوال السنوات الأربع الماضية، من تمدّد «داعش» واستحواذه على ثلث مساحة العراق، ومن ثم استيعاب محور المقاومة لصدمة سقوط الموصل وتداعياتها (حزيران 2014)، وخوض بغداد غمار حربٍ أسفرت عن نصرٍ نهائي على أكثر التنظيمات تطرّفاً في العالم (كانون الأوّل 2017)، ثمّة فراغٌ خلّفه «داعش» في الخارطة الميدانية، ما يدفع بالسؤال عن «خليفة دولة الخلافة»؛ بخاصّة أن «بلاد الرافدين» تشكّل عقدة الوصل بين دول محور المقاومة، والدور الذي رُسم لـ«داعش» كان بكسر هذا الخط الممتد من طهران، إلى بغداد، فدمشق... وصولاً إلى بيروت.

لا نريد «حزب الله»... عراقياً

قبل أشهرٍ عدّة (حزيران 2017)، ومع اقتراب بغداد من حسم انتصارها في معركة الموصل، وإطلاق دول «المحور الأميركي» تحذيراتها من إمكانية وصول قوات «الحشد الشعبي» إلى الحدود العراقية ــــ السورية، جال وفدٌ أميركي على القيادات العراقية للتباحث في شؤون البلاد.

يُنقل عن سليماني
إن عديد القوات الأميركية
يناهز العشرين ألفاً


سأل مرجع سياسيٌّ كبير: ماذا تريدون منّا؟ كان الردُّ «نريد تحقيق نقطتين»: الأولى، أن لا تتحول قوات «الحشد الشعبي» إلى قواتٍ مماثلةٍ لحزب الله اللبناني التي «تلتزم بالأجندة الإيرانية في الصراع القائم في المنطقة». والثانية، زيادة عدد القواعد الأميركية وعديد قواتها وأماكن انتشارها في العراق، وتحديداً في وسط البلاد وغربها.
فُسّر المسعى أن الهدف ضبط الحدود العراقية ــــ السورية، ومنع «حلفاء إيران» من الوصول إلى هناك. تريّث المرجع في الرّد، لكنه استدرك ضيوفه بالتالي: «بالنسبة للنقطة الأولى، لا يمكن للحشد أن يتحوّل إلى قواتٍ مماثلةٍ لحزب الله، لأسبابٍ وعوامل عدّة»، ذلك أن «طبيعة الصراع هنا تختلف عن الصراع في لبنان، وطبيعة المكوّنات الطائفية والسياسية مختلفة أيضاً، ومهام الحشد محدّدة، وهو مؤسسة أمنية ــــ عسكرية ملتزمةٌ بالقرار الحكومي». تطرّق المرجع إلى النقطة الثانية، استند إلى مزاج الشارع العام، الرافض لوجود أي قوّة أجنبيّةٍ في البلاد، ليسأل: «هل تظنون أن الإيرانيين سيقبلون بمثل هذا الطلب؟ طهران تحافظ على أمنها القومي، بالدخول في مواجهةٍ معكم، وتأكّدوا أن الحشد والشعب من سيهاجمكم، وسيدمّر تلك القواعد...».
كان الجواب «صاعقاً» على الأميركيين. ردّوا على تساؤلات ذلك المرجع «لاحقاً»، بأن «نصيحته» بغضّ الطرف عن تلك المطالب، كانت «صحيحة»، وأن علاقة واشنطن ــــ بغداد يجب أن تتّسم بالوضوح والشفافية، واحترام الأولى لسيادة الثانية وعدم التدخّل في شؤونها.
لم يكن ذلك المرجع هو وحده من سمع هذه المطالب، فمن جال عليهم الوفد سمعوا مطالب «العم سام». وبمعزلٍ عن «النصيحة»، كان الطلب الأميركي متأخّراً بعض الشيء، بعد تمكّن «الحشد» من الوصول إلى عددٍ من النقاط الحدودية، وملاقاته قوات الجيش السوري، الأمر الذي شكّل صفعةً لواشنطن وحلفائها. إذ تنقل مصادر أمنية عراقية رفيعة أن الأميركي وجد في احتلاله فرصةً لضرب محور المقاومة، خاصةً أن الحدود العراقية ــ السورية تشكّل العمق الاستراتيجي لهذا المحور. سياسة واشنطن اقتضت العمل على فك الارتباط الجغرافي بين تلك الدول، والشروع في تفتيتها الواحدة تلو الأخرى، ومن ثم استمالتها إلى محور «الاعتدال العربي»، في مرحلةٍ لاحقة.

الأميركيون في ازدياد... دائم

يوجب الفراغ الذي أحدثه «داعش» ميدانياً ملؤه سريعاً. ثمّة من يذهب باعتقاده الى أن «الحشد» سيقوم بهذه المهمة، وهو «اعتقادٌ خاطئٌ» وفق قيادات «الحشد»، فـ«نحن لا يمكن أن نتحوّل إلى جهةٍ معاديةٍ للشعب العراقي»، تقول مصادره في حديثها إلى «الأخبار». هنا، تتقاطع الردود عند نقطةٍ مفصليّة، بأن القوات الأميركية وحدها من تستطيع ملء هذا الفراغ، لعديدها وطبيعة انتشارها وتوزّعها من جهة، وعدم تقبّل الشارع العراقي لتواجدها من جهةٍ أخرى، بالرغم من تمسّك حكومة العبادي ببقائها، و«إن خرج الأخير بتصريحاتٍ داعية إلى خروجها مع إعلان الانتصار على داعش»، وفق مصدرٍ أمنيّ عراقي (راجع «الأخبار»، عدد 3149) .
وبحسب تقديرات حكومة العبادي، فإن عدد القوات الأميركيّة في البلاد لا يتجاوز الثمانية آلاف، في وقتٍ يُنقل فيه عن قائد «قوّة القدس» في «الحرس الثوري» قاسم سليماني إن «عديد القوات الأميركية في العراق يناهز العشرين ألفاً... وأكثر»، وهو رقمٌ لم يكن موجوداً قبل عام 2014، إنما بات واقعاً مع «تمدّد داعش»، واعتقاد العبادي بأن واشنطن وحلفاءها قادرون على «تقديم دعمٍ قيّم في الحرب على الإرهاب... خاصّةً أن إمكاناتنا ضعيفة»، كما ينقل عنه، الأمر الذي يعارضه فريقٌ عراقيٌّ واسعٌ، ذلك أن «القضاء على داعش كان بجهدٍ عراقي خالص، والأميركيون أعاقوا كثيراً تقدّمنا لصالح التنظيم المتطرّف» (راجع «الأخبار»، عدد 3096) .

المواجهة؟

لن يكون عام 2018 عاديّاً بالنسبة الى العراق والعراقيين. استحقاقات سياسية بـ«الجملة»، لكن للميدان واقعه الخاص. قد يفرض التواجد «المستفز» للقوات الأميركية في العراق مواجهةً بينها وبين فصائل المقاومة، ومن خلفها إيران (راجع «الأخبار»، عدد 3313) . وأمام هذه الفرضية، ثمّة تساؤلات يفترض طرحها، أبرزها: هل يقبل العراق والعراقيون عودة جديدة للاحتلال الأميركي، بمسمّيات جديدة وعناوين مختلفة؟ («تحالف دولي»، مستشارون، شركات أمنية...) وهل يترك البعض سلاحه لمصالح انتخابية على حساب تاريخه المقاوم؟ وهل تمتلك الطبقة السياسية حلّاً جذريّاً لمثل هذه المعضلة، خاصّةً أن الانفتاح (سياسياً، عسكرياً، أمنياً، اقتصادياً...) على بلاد الرافدين وصل حدّاً يفرض امتلاك العبادي ــ تحديداً ــ رؤيةً واضحة المعالم للمرحلة المقبلة، وتحدياتها!