رام الله ــ الأخبارالمفاوضات، التبيعة الاقتصادية والتنسيق الأمني، ثلاثة قيود تكبّل السلطة الفلسطينية ولا مجال للفكاك منها، إلا في عملية واحدة: حلّ السلطة نفسها. هي بنود عريضة خُطّت في اتفاقات أوسلو وطابا و«بروتوكول» باريس التي هنْدس فيها الإسرائيليون بمكر ما يرونه نمطاً مناسباً للحكم الذاتي للفلسطينيين.

لكن في منعطف ما بين 2000 ــــ 2002، صارت بعض أجهزة أمن السلطة وأفرادها مشاركين في الانتفاضِ ضد الاحتلال، ما جعلها تحت مرمى النار. وعندما جاء المشروع السياسي ــ الأمني ــ الاقتصادي الجديد، الذي يمثله محمود عباس وسلام فياض ورجالهم في الإعلام، أُعيدت صياغة أمن السلطة لتنتج حالة مستمرة منذ أكثر من 13 سنة تعمل ضد المقاومة والانتفاضة الشعبية، وصارت تمثل الحاجز الأكبر أمام الوصول إلى الانتفاضة الشاملة على إسرائيل


دائماً ما تُنسي الأحداث الكبيرة بعض التفاصيل المهمة. لنعد إلى الوراء قليلاً، قبل دونالد ترامب وقراره الأخير، وقبل هبّة الشارع «المنقوصة». في الحادي عشر من تشرين الثاني الماضي، أعلن قائد الشرطة الفلسطينية، اللواء حازم عطاالله، أن التنسيق الأمني مع العدو الإسرائيلي «عاد» إلى طبيعته. ثمة سلطة تطرح نفسها كدولة وتريد أن يعترف بها العالم كذلك، ورئيس جهاز الشرطة ــ الأضعف بين أجهزتها الأمنية ــ يعلن قراراً معاكساً لقرار يفترض أنه «سيادي» اتخذه رئيس «الدولة» محمود عباس، كان قد اتخذه الأخير في الرابع عشر من تموز الماضي، حينما أعلن، في اجتماع مركزي «وقفَ التنسيق الأمني احتجاجاً على تركيب الاحتلال بوابات إلكترونية في المسجد الأقصى» في القدس المحتلة، مستدركاً خلال تلاوته قراره بسؤال من حوله بالعامية: «انبسطتوا؟»، ليرجع ويكمل قراءة البيان.
بينما رأى كثيرون أنها مناورة، جاءت بعد التهديد بها لعامين متواصلين، كانت السلطة تعلي السقف، في وقت لم يظهر فيه الإسرائيليون أي قلق كبير تجاه «وقف التنسيق». فبعد ثلاثة أسابيع من قرار السلطة، كان مستشار عباس، محمود الهباش، يعلن شروطاً لاستئناف التنسيق، أبرزها أن تكون المناطق المصنفة «أ» وفق اتفاقية أوسلو تحت سيادة السلطة كلياً، وأن تكون مراكز السلطة ــ المدنية والأمنية ــ محمية قانونياً ودولياً. طبعاً، لم يتحقق أي من هذه الشروط، وفجأة خلال مؤتمر للحديث عن المصالحة الفلسطينية و«ضرورة تمكين» رام الله من عملها في غزة، يعلن عطاالله لمجموعة من الصحافيين الأجانب أن «الجميع ينسق الآن»، فمن هم الجميع؟ وكيف أُلغي القرار؟
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، من المهم تسجيل مفارقة لافتة: بينما تتضمن المحاكم الفلسطينية بنوداً قانونية عن الخيانة العظمى والعمالة للعدو وتحاكم بأحكام مختلفة عدداً من الموقوفين الذين ثبت عليهم التورط في أحد أنواع العمل الجاسوسي (حالياً تَعلّق تنفيذ الإعدامات)، تعمل قيادة السلطة وكوادرها على تبادل معلومات في جميع المجالات وحتى تسليم مستوطنين مع إسرائيل بصورة رسمية وعلنية، وقد أدى ذلك في مرات عدة إلى اغتيال أو اعتقال عدد من الفلسطينيين، سواء في الضفة أو غزة بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

تقرر وقف التنسيق عام 2015 وطُبق «شكلياً» لشهرين في 2017 لكنه استمر

بعبارة أخرى: إن الفارق بين التنسيق الأمني والعمالة في نظر السلطة هو أن أساليب ونتائج الأخيرة يجب أن تمر بطريقة رسمية عبرها حتى تصير مشروعة، في ظل أن التنسيق «خطوة اضطرارية ومؤقتة» إلى حين إقامة «الدولة الفلسطينية»!

ما هو التنسيق؟

جاء التنسيق الأمني كمتطلبٍ إجباري في اتفاق أوسلو الذي قسّم مناطق الضفة وغزة إلى «أ»، و«ب»، و«ج»، وفيما تخضع «أ» لسيطرة السلطة الكاملة، فإن «ب» و«ج» تخضعان لتقاسم السيطرة والصلاحيات الأمنية والمدنية. ويقوم التنسيق على تبادل المعلومات بين السلطة والعدو في قضايا الأمن للجانبين، واتخاذ الإجراءات الفعلية لمكافحة «العنف» بالاتفاق والتواصل بينهما. هنا تبدأ مشكلة التعرض للمقاومين، سواء انتموا إلى فصائل أو كانوا أفراداً.
أما بدايات التنسيق، فكانت برسالة من الرئيس الراحل ياسر عرفات إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحاق رابين، عام 1993 (قبل توقيع اتفاق أوسلو) نصت على تعهد «منظمة التحرير» (قبل تأسيس السلطة) «بملاحقةَ أعمال العنف والإرهابيين»، ثم جاء «أوسلو» لينص على وجود تنسيق عام دون أن يدخل في التفاصيل. لكن الاتفاق أوضح آنذاك أن إسرائيل مسؤولة عن الأمن في الأراضي المحتلة عام 1967، ما أعطاها من البداية «حق الدفاع عن هذه الأرض ضد أي عدوان خارجي، وحق العمل الأمني فيها في أي وقت تشاء». ازدادت المسألة خطورة عند إنشاء السلطة عام 1994 في غزة وأريحا، إذ ساومها العدو على توسيع سيطرتها الجغرافية بمستوى أدائها الأمني، ومدى قدرتها على ضبط الوضع لمصلحة إسرائيل.
بعدها، جاءت اتفاقية طابا 1995 لتضع توضيحاً للتنسيق الأمني، إذ نصت على أن «السلطة مسؤولة عن منع الإرهاب والإرهابيين واتخاذ الإجراءات المناسبة بحقهم»، كما نصت على «ضرورة امتناع السلطة عن ملاحقة العملاء المرتبطين بالعدو وأنهوا خدمتهم أو تم اكتشافهم». وفي ذلك الوقت، نصت الاتفاقية على أن «الشرطة الفلسطينية الجهاز الأمني الوحيد المُخوّل العمل في الأرض المحتلة 67، وأن التنسيق يجري عبر لجنة فلسطينية ــ إسرائيلية مشتركة». وكان أوضح تبرير في هذا الإطار هو كلام المدير السابق لجهاز «المخابرات» اللواء توفيق الطيراوي، حين قال: «تم التنسيق من خلال اتصال الإسرائيلي على السلطة في منطقة (أ)، وتُبلغ أجهزة السلطة عن مقاوم يريد تنفيذ عملية في إسرائيل، فالأجهزة تعتقله تماماً مثل أي دولة في العالم تمنع المخالفات تجاه الدول الأخرى»، رغم أن الوقائع كلها لا تبيّن أن إسرائيل تتعاطى مع السلطة بأسلوب الدولة منذ 1994 حتى الآن.
اتخذ التنسيق الأمني شكلاً أفقياً في البداية، أي بتبادل المعلومات بين الطرفين، والمحاربة لما يعتبره العدو «إرهاباً وعنفاً»، كما طبقت بنود «أوسلو» كافة بما فيها البند 6 من المادة «13» المعنون بـ«الأمن» الذي نص على «تنفيذ الشرطة الفلسطينية والقوات العسكرية الإسرائيلية نشاطات أمنية مشتركة على الطرق الرئيسية»، وتم بناءً عليه تسيير دوريات مشتركة بين أمن السلطة وجيش العدو. كذلك، نصت النقطة «ز» تحت عنوان «مكاتب التنسيق اللوائية» (DCOS) على «ضرورة إبلاغ مكاتب التنسيق المعتمدة في حال وجود نشاط مخطط أو غير مخطط له من أحد الجانبين يؤثر في المسؤولية الأمنية للجانب الآخر»، فيما أشارت النقطة الفرعية «4» من «ز» إلى «ضرورة الإبلاغ عن حوادث الاشتباك أو أي حادث يستخدم فيه سلاح»، والنقطة التي تليها شددت على «ضرورة الإبلاغ عن أي عمل إرهابي من أي نوع ومن أي مصدر».
مع ذلك، تلكأ العدو في تطبيق اتفاق أوسلو، وربط كل خطوة بركيزة الأمن. ورغم أن السلطة طبقت كل التزاماتها الأمنية خاصة، والاتفاق بحذافيره عامة، ماطل العدو وكرر خرق الاتفاق الذي اعتبرته فصائل كثيرة خيانة للقضية.


أكبر الاختراقات كان أن العدو لم ينسحب من مدينة الخليل، ولم تدخل السلطة فيها وفق الاتفاق، كما افتتح العدو نفقاً أسفل المسجد الأقصى، وهو ما قابله الرئيس عرفات آنذاك بإطلاق ما سمي «هبّة النفق» (1996)، وفيها لم يقف أفراد أجهزة الأمن على الحياد، بل ردّوا على إطلاق النار بالنار. بعد انتهاء «هبّة النفق»، عاد التنسيق الأمني طبيعياً، ووافقت إسرائيل على تسليم الخليل للسلطة، ثم وُقّع ما يعرف بـ«بروتوكول إعادة الانتشار»، وقد أشار البند «23» منه صراحةً إلى أن «تعزيز التعاون الأمني، ومكافحة الإرهاب ومنع العنف من المسؤوليات التي تقع على عاتق السلطة»، كما أكد البند «وجوب توقيف الإرهابيين ومحاكمتهم ومعاقبتهم، وكذلك المكافحة المنهجية والفعالة للمنظمات والبنى التحتية الإرهابية».
تطور التنسيق الأمني بالتزامن مع إنشاء أجهزة فلسطينية جديدة بخلاف الشرطة في التسعينيات، لم يقرها اتفاقا أوسلو أو طابا، وأبرزها: المخابرات العامة والأمن الوقائي، وكذلك الاستخبارات، وكلها تُعنى بـ«التنسيق لنبذ العنف، والمحافظة على الهدوء والاستقرار»، ثم أنشئ: الحرس الرئاسي، والبحرية (في غزة)، والضابطة الجمركية، والأمن الوطني. عند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، دخل التنسيق الأمني في منعطف جديد، بعدما دمّر العدو مقارّ للسلطة وأجهزتها، الأمر الذي أدّى إلى مواجهة مسلحة في مناطق عدة، تبناها عرفات دون العودة إلى المفاوضات حول قضايا الحل النهائي، إذ رفض العرض الأميركي ــ الإسرائيلي الأخير في «كامب ديفيد»، وتكوّن عنده اقتناع بأن «أوسلو» بات حالة مزمنة ولن يعطى الفلسطينيون دولة.

تنشط أجهزة
المخابرات والوقائي والاستخبارات في التنسيق الأمني المباشر


مع أن التنسيق الأمني عاش أضعف حالاته في بدايات انتفاضة الأقصى، كانت بعض المسيرات بعد عام 2002 يتخللها الهتاف الدائم: «والتنسيق ليش ليش... وإحنا تحت رصاص الجيش»، في إشارة واضحة إلى شعور الفلسطينيين بأن التنسيق مستمر رغم أجواء الانتفاضة. وفعلياً، لم تتوقف الاتصالات بين الإسرائيليين والسلطة، إذ سعى العدو إلى وأد الانتفاضة وعودة الاستقرار كما كان قبل 2000، وقد حاول بعض السياسيين الفلسطينيين، ومنهم طاقم المفاوضات، التواصل مع قيادات مسلحة («كتائب شهداء الأقصى») طلباً للتهدئة مراراً. أما في ما بعد انتهاء الانتفاضة (2004 ــ 2007)، فقد بدأت البرامج الأميركية لإعادة تشكيل الأجهزة الأمنية، بعد أحداث عدة هي: تفتت «كتائب الأقصى»، برنامج «العفو» عن المطلوبين من الكتائب ودمج عدد منهم في أجهزة السلطة.

طبيعة العمل

حالياً، تتبادل أجهزة السلطة كافة المعلومات مع العدو، لكن بعضها بصورة غير مباشرة، وكذلك تختلف طبيعة المعلومات، فالشرطة والضابطة الجمركية والأمن الوطني تنجز مهماتها بناءً على ما تحصل عليه من معلومات ليس من العدو مباشرة، بل من جهازَي «الارتباط المدني الفلسطيني» أو «العسكري». وبينما ينشط الأمن الوطني في إقامة الحواجز على مداخل مناطق «أ» ويعمل على تسيير دوريات فيها وحراسة بعض المقارّ العسكرية، يختص جهاز الشرطة، المنسق الأول، بمهمات الأمن العام والمرور ومكافحة المخدرات والممنوعات ومساعدة القضاء، كما يضم «الشرطة الخاصة» التي تعمل على تفريق التظاهرات وفض الشجارات، حتى لو كان منها مسيرات مناهضة للاحتلال، وغالباً ما تكون نشاطاته في مناطق «أ». وبشأن الضابطة الجمركية، تقع على عاتقها مسؤولية مراقبة البضائع ومن ضمنها منع دخول بضائع المستوطنات.
أما الأجهزة المتبقية، المخابرات والوقائي والاستخبارات، فتنسق مباشرة مع الضباط الإسرائيليين. وينشط المخابرات والوقائي في هذا المجال أكثر من الاستخبارات، فهما وُجدا أصلاً لهذا الغرض، رغم أنهما يكافحان في بعض الأحيان السماسرة والمتورطين بالاتصال بالعدو. والاستخبارات يختص بمتابعة شؤون العسكريين والتحقيق مع رجال أمن السلطة في مخالفاتهم ثم محاكمتهم عسكرياً.
وبما أن معظم مناطق الضفة تحت تصنيف «ب» و«ج»، يجب على أجهزة السلطة أخذ الموافقة من الاحتلال إذا أرادت دخول مناطق خارج «أ»، لتنفيذ مهمة تتعلق بوقف حالة مقاومة، أو بالقبض على مجرم أو ملاحقة بضائع فاسدة. فمثلاً إذا توجّهت الشرطة لملاحقة أحد الجناة قرب مدخل مدينة نابلس، وتزامن ذلك مع قدوم الدوريات الإسرائيلية لاقتحام المدينة من المكان نفسه، فالشرطة تُبلغ «الارتباط الفلسطيني» الذي يتواصل مباشرة مع نظيره الإسرائيلي. وبناءً عليه، يتصرف أفراد الشرطة الفلسطينية، وفي بعض الأحيان قد يقتحم الاحتلال ولا ينتظر التفاهم إذا كانت المهمة حساسة أو خطيرة وفق تقييمه، وفي أحيان أخرى ينتظر إنهاء الشرطة مهمتها ثم يقتحم المدينة. وفي المقابل، الاحتلال غير ملزم بالتنسيق لدخول أي منطقة إلا وفق ما يختار، لكن مصادر تحدثت إلى «الأخبار» قائلة إنه بنسبة النصف يبلّغ العدو «الارتباط الفلسطيني» بدخوله، فيخلي الأمن الفلسطيني الشوارع كافة كي يعمل جيش العدو بأريحية.
ثمة جوانب أخرى للتنسيق، إذ إن المادة «28» من الشق الأمني لاتفاقية أوسلو تنص على أن السلطة ملزمة «بإعادة المستوطنين وتسليمهم في حال دخولهم المناطق التي تسيطر عليها»، لكن العدو ليس ملزماً بذلك، ولا يُعيد فلسطينيين في معظم الأحيان، فضلاً عن عمليات الاعتقال والأسر. أيضاً، توجد «سياسة الباب الدوار»، إذ تفرج السلطة عن معتقل فلسطيني حققت معه، ليجد نفسه معتقلاً مباشرة أو بعد أيام في السجون الإسرائيلية، أو العكس: يخرج من السجون الإسرائيلية ثم تعتقله السلطة، على القضية والاتهامات نفسها. وهذه السياسة في تصاعد مستمر منذ فرض نموذج «الفلسطيني الجديد»، وهو ما أوصل رئيس جهاز «الشاباك» الإسرائيلي الأسبق، يوفال ديسكين، إلى القول قبل سنوات، إنه «لأول مرة منذ ما يزيد على عشرين عاماً، تخلو قائمة المطلوبين (للعدو) في الضفة».

ماذا يعني إيقاف التنسيق؟

في آذار 2015، أقر «المجلس المركزي لمنظمة التحرير» «وقف التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، رداً على تنكر إسرائيل الكامل لكل الاتفاقات المبرمة»، لكن هذا القرار لم يُنفّذ، وذلك لاعتبارات كثيرة، إذ إن التنسيق الأمني ليس أحد إفرازات أوسلو، بل هو ركيزة أساسية فيه، لأنه يتعلق بالثالوث الأهم بين مكونات الاتفاق: الأمن، الاقتصاد والسياسة. هذه الثلاثية شكلت مخطط القلب لوجود السلطة، وأي خلل في أحدها يعني ضعف السلطة أو اقترابها من الانهيار، وهذا ما يمنع وقف التنسيق الأمني أو إنهاءه، لأن السلطة جاءت إلى فلسطين بناءً على شرط تطبيق بنود الاتفاق كافة.
أما عن تجميد التنسيق، فتتفاوت نتائجه، إذ قد تفرض حكومة العدو عقوبات على السلطة وفق طبيعة «التجميد»، ومن هذه العقوبات: وقف أو سحب التصاريح الخاصة بالشخصيات الفلسطينية ومنعها من التسهيلات بموجبها، أو احتجاز العائدات الضريبية التي يجبيها العدو من المعابر ثم يعطي السلطة نصيبها، ما يعني التأثير في قدرة رام الله على دفع رواتب موظفيها.
لذلك، حتى عندما نُفذ قرار الوقف أو التجميد «جزئياً»، كما أعلنت السلطة لشهرين من هذا العام، عاد التنسيق تدريجياً ولم يتكلف قيادات السلطة أو «فتح» عناء إعلان ذلك. أما في حال انهيار السلطة أو حلها، فإن العدو أمامه سيناريوات عدة، أبرزها أن يُحضر بديلاً من شخوص السلطة الحالية لتعيد التنسيق، أو بديلاً من السلطة نفسها على شكل هيئات محلية تتحكم كل واحدة منها بمنطقة معينة وتختص بأمورها الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية. وتبقى خيارات ضم الضفة إليه أو إلى كونفدرالية مع الأردن بالتزامن مع فصل قطاع غزة وإلحاقه اقتصادياً بمصر، كلها خيارات تطرحها مراكز الأبحاث، لكنها في النهاية تدور حول حقيقة واحدة توصلها إسرائيل إلى السلطة يومياً: التنسيق معنا هو ضمان استمرار وجودكم.




التعزيز والتبرير: القروض والخوف من «حماس»


عام 2007 دخل التنسيق الأمني مرحلة لم يشهدها من ذي قبل، بعدما سيطرت حركة «حماس» على غزة، وانهارت الأجهزة الأمنية الكبيرة للسلطة هناك. كان هذا التحول «صاعقاً ومفاجئاً»، وأدى إلى إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية تحت إشراف مباشر من الولايات المتحدة، كذلك أثمر بتعزيز التنسيق الأمني، لكن بالصورة العمودية بدلاً من الأفقية، فأصبحت السلطة تلتزم ما يطلبه العدو من دون مردود عليها. مقابل هذا النوع من الالتزام، فتح العدو المجال للسلطة للتسلح ومضاعفة عدد أفرادها «خشية تكرار ما حدث في غزة بسيطرة حماس على الضفة»، وهو ما كان يهوّل له العدو لإخافة السلطة.
سُمّيت هذه العملية نموذج «الفلسطيني الجديد» الذي تعاقب عليه عدة جنرالات أميركيين بارزين، خاصة كيث دايتون، وشمل تسليح السلطة وفق المعايير الإسرائيلية، كذلك عمل على ربط الشباب الفلسطينيين تلقائياً بالمال عبر استيعاب أكبر قدر ممكن منهم في أجهزة السلطة، ومن ثم أصبحت السلطة وكيلاً أمنياً يرتبط وجودها قبل المفاوضات والاقتصاد بمستوى التنسيق الأمني. واجتماعياً، حوّل عمل عشرات الآلاف في أجهزة السلطة، وأضعافهم في وزاراتها المختلفة، خيارَ المقاومة إلى تهديد لنسيج العائلة الواحدة، فيما ساهمت سياسة رئيس الوزراء السابق سلام فياض الاقتصادية، في تعقيد المشهد، بعدما أثقلت كاهل الموظفين بالقروض المصرفية، إذ لم يكن يُعرف في الضفة الإقبال على القروض إلا بعد 2009، وصار المواطن يشبه بحالته المالية حالة السلطة التي تعتمد على المنح والقروض الخارجية وسدادها بالتقسيط!