يقفز إلى الواجهة كتاب رشيد الخالدي الأخير «عرابو الخداع» عن الرعاية الأميركية المخادعة لعملية التسوية منذ نصف قرن. وجاهة العودة تكمن في التأتأة التي أصابت الكلام العربي الرسمي الذي لا يجد ما يقوله في خديعة الوسيط الأميركي، سوى إبداء الأسى على تبخّر «نزاهته».
ورشيد الخالدي نموذج معاصر للمثقف العضوي، أي المثقف الملتزم قضية تحرر شعبه من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، مع الاحتفاظ بالمسافة النقدية الضرورية عند تحليل وتقييم التطورات المرتبطة بالقضية أو أداء القوى الناطقة باسمها أو المدافعة عنها. الخالدي الذي لم يولد في مدينة أجداده القدس، بل في نيويورك وفي عام النكبة (١٩٤٨)، كرّس كل عمله الأكاديمي ومحاضراته في الجامعات ومراكز الأبحاث، وحتى في الأكاديميات العسكرية الأميركية ومداخلاته الإعلامية لدحض السرديات الصهيونية والسياسات الأميركية تجاه الشعب الفلسطيني وجميع شعوب المنطقة. هو مؤرخ ويحتل مقعد إدوارد سعيد كأستاذ للدراسات العربية المعاصرة في جامعة كولومبيا، ورئيس تحرير مجلة الدراسات الفلسطينية الصادرة في الولايات المتحدة. له العديد من المؤلفات المهمة، ومنها «تحت الحصار» عن الاجتياح الإسرائيلي للبنان وتداعياته على المقاومة الفلسطينية. وبحث في كتابه «الهوية الفلسطينية» مسار تشكّل الهوية الوطنية الفلسطينية وتحوّلها. وعاين في «بذر الأزمات» نصف قرن من السياسة الأميركية في الشرق الأوسط ونضال الشعب الفلسطيني لتقرير المصير




من العنوان الذي يحتلّه رشيد الخالدي في واشنطن، يعاين الرجل عن قريب النقاش الدائر اليوم، بعد اعتراف دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل. هل اتخذ الرئيس الأميركي قراره وحيداً، أم أنه جزء من سياسة جديدة لإدارة بلاده، لها علاقة ببناء تحالف إقليمي في وجه إيران. يستعين الخالدي بمصطلحات علم النفس لشرح ما جرى في سياق اتخاذ هذا القرار: «هناك نوع من الانفصام داخل هذه الإدارة، لأن الرئيس منقطع كلياً عمّا يسمى الدولة العميقة، أي الجيش والمخابرات الخارجية، وبرأي هذا الفريق إن القرار لم يكن ضرورياً. لا يعني ذلك أنه اتخذ قراره منفرداً. بالعكس، فهو يمثّل تياراً قوياً جديداً في السياسة الأميركية، وهو تيار صهيوني متشدد، يتكوّن من جناحين: الأول يضم المتمولين الكبار، أمثال شلدون إدلسون وحاييم سابان، والعديد من الأثرياء الصهاينة الذين يدعمون الحزب الجمهوري بشكل خاص. أما التيار الآخر، فهو المسيحي الإنجيلي الصهيوني الذي لا تعوزه القوة ولا الحضور في الولايات الجنوبية. لعب هذان التياران دوراً مهماً جداً في تكوين السياسة الأميركية وتوجيهها منذ بداية عهد الرئيس دونالد ترامب، وقد استردّا حيويتهما مع وصوله إلى البيت الأبيض».
يخترق هذان التياران المؤسسات الأميركية منذ زمن، ولا يمثل حضورهما في عهد ترامب حدثاً جديداً، «نعم، لكن الدولة العميقة لا توافق على هذا القرار، لأنها إذا كانت تريد مواجهة إيران مثلهما، إلا أنها تريد أن تفعل ذلك بطريقة مسؤولة، وبرأيها يخاطر قرار دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو بجرّ الولايات المتحدة إلى مواجهة غير مسؤولة. لكن القرار في النهاية يعود إلى الرئيس وحده، والدولة العميقة تخضع لسلطته».
لم يأتِ هذا القرار بناءً على طلب حكومة نتنياهو على ما يقوله جمهور كبير من المحللين، بل جاء بناءً على طلب مؤيدي هذه الحكومة في الولايات المتحدة، وتبدو خلفيات هذا القرار وأسبابه داخلية محضة. يقول الخالدي: «صحيح، وبعضها شخصي بتأثير من جارد كوشنير، زوج ابنته إيفانكا، وديفيد فريدمان مستشار حملته الانتخابية وسفيره في تل أبيب، وجيسون غرينبلات مبعوثه إلى الشرق الأوسط، وهم أقرب الناس إليه، وهناك الملياردير شلتون إدلسون الذي دفع للحزب الجمهوري ١٥ مليون دولار، وتبرّع بـ١٠ ملايين دولار لتمويل الحملة الانتخابية لدونالد ترامب. ترامب جاهز، وهو لا يفقه شيئاً من أمور العالم، كوشنير جاهل، وغرينبلات محامٍ اختصاصه إفلاس الشركات، وفريدمان لا يعرف شيئاً عن العالم، ومعظمهم يتبرع بالملايين لبناء مستوطنات. وهم مجموعة من الجهلاء بالعرب وبعالمهم، هذا القرار اتُّخذ لأسباب داخلية فحسب، وتنحصر دوافع ترامب بضمان إعادة انتخابه وتعبئة قاعدته الانتخابية لا غير. وهناك من يقول إن الرجل توقّف عن كونه رئيساً للولايات المتحدة ليصبح رئيساً لقاعدته الانتخابية فحسب، التي يلبي كل طلباتها، ولا يستمع لأي آراء مخالفة له».

حول الرئيس ترامب
مجموعة من الجهلاء
بالعرب وبعالمهمن


وحتى لو كان البعد الشخصي قوياً في قرار ترامب، لكن سيكون لهذا القرار تبعات كبيرة على مستقبل القدس وعلى مصالح الولايات المتحدة والدولة العميقة، من أجهزة مخابرات ووزارة دفاع، والدبلوماسيون المخضرمون في وزارة الخارجية يدركون مخاطره، يجيب الخالدي بأنّ «للقرار عواقب خطرة تمسّ بالدرجة الأولى تحالفات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. لا يوجد حليف عربي واحد للولايات المتحدة يرتاح لهذا القرار. هذا القرار يحرج دول الخليج وملوكها وأمرائها، حتى الحكومة الإسرائيلية ليست مرتاحة تماماً لهذا القرار. هم سعداء به ولكنه سيخلق لهم الكثير من المشاكل في الداخل. هبّة شعبية أو انتفاضة ثالثة سيكون ذلك مشكلة كبيرة لهم. التأييد الشعبي العربي والإسلامي لمواجهة قرار ترامب، هو مشكلة أيضاً. كانت جهودهم الدبلوماسية قبل اتخاذ القرار تسير على أفضل ما يرام نحو تطبيع علاقاتهم مع الدول العربية والإسلامية، وكانت العلاقات تتقدم مع الصين والهند ودوّل آسيا الوسطى، ومن المؤكد أنها ستصاب الآن بنكسة. الموقف الأوروبي الرافض للقرار يؤكد أن أوروبا لم تعد تنظر إلى الولايات المتحدة كحليف يمكن الوثوق به. هذا كان مهماً لو وجد هناك عرب، أي حكومات عربية تمثل آراء شعوبها بدلاً من أن تكون عوناً لواشنطن، بوسعها أن تستغل هذه الفجوة التي فتحت بين الولايات المتحدة وأقرب حلفائها».
في قرار ترامب هناك فرصة للشعب الفلسطيني، وللقضية الفلسطينية، ومؤيدي هذه القضية في العالم. ليس جديداً أن تقف أميركا إلى جانب إسرائيل، لكن تتماهى معها في الموقف من القضية الأهم، أي القدس، فهذا جديد. الخالدي اطّلع في أرشيف وزارة الخارجية الأميركية على وثائق كثيرة: «كانت هناك مذكرة تفاهم أميركية إسرائيلية عمرها نصف قرن، وقّع عليها هنري كيسنجر تتعهد بموجبها الولايات المتحدة إطلاع حليفها الإسرائيلي على كل موقف أو اقتراح قبل تقديمه إلى العرب. أما في العلن، فهناك الكلام الفارغ عن دور أميركا كوسيط الذي لم يقبضه للأسف إلا بعض البسطاء من العرب في السلطة الفلسطينية والحكومات العربية».
الأخطر في الاعتراف الأميركي بالقدس ليس ضم المدينة، بل شطر الضفة وفلسطين كلها شطرين وابتلاعها، وفي هذا المجال يشير المؤرخ الفلسطيني إلى أنّ «القدس لا تتصل بالمقدسات فحسب، ولا بالرمزية التاريخية وحدها، بل تتصل في تصورات الإسرائيليين وخرائطهم لضمّ كل المنطقة التي تفصل المدينة عن غور الأردن. وهي تتعلق إذاً بالسيادة على الضفة الغربية، وعلى الحدود. فعندما يعترف دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، لا يكتفي بإعطائها تأييداً علنياً في القضية الأهم، بل يتفرّع من ذلك أيضاً الاعتراف بحق إسرائيل في التوسع بالقدس الكبرى، وضم مستوطنات معاليه أدوميم، وخان الأحمر، والمنطقة «أ»، أي كل تلك المنطقة الممتدة ما بين اللد وأريحا. نحن نتحدث عن وسط فلسطين، وهذا يضع الولايات المتحدة في خانة إسرائيل بشكل مفضوح، لن تستطيع من بعدها أن تزعم وساطة ما مع العرب، أو أن تحدد أصول اللعبة، ولتتفضل للجلوس إلى جانب إسرائيل في قاعة أي مفاوضات، لأنها أصبحت طرفاً، ولم تعد وسيطاً».
قبل قرار ترامب، يُظهر كتاب الخالدي «عرابو الخداع» أن كل الرعاية الأميركية لعملية السلام كانت رواية مخادعة، وأن الموقف الأميركي كان منحازاً بكليته إلى إسرائيل، ويثير الاستغراب أنه لو شقّت العملية السلمية منذ مؤتمر مدريد طريقها، لأدّت إلى تحقيق تسوية على قاعدة الأرض مقابل السلام وإلى تثبيت هيمنة الولايات المتحدة على الشرق العربي.
يلفت الخالدي إلى أنّه «في الحقيقة لم يكن الأرض مقابل السلام وارداً لدى الولايات المتحدة على الإطلاق. ما كان وارداً هو القليل من الأرض دون السيادة، مقابل الاستسلام. لماذا؟ يسود لدى الكثير من الأوساط القيادية الأميركية تصوّر للعالم يزعم أن النزاع السني الشيعي، أو الخلاف الإيراني السعودي بالأحرى، أضحى النزاع الأهم في المنطقة، وهي فرصة لإسرائيل لتفعل ما تريد، وأنّ أحداً لا يستطيع ردع القوة الإسرائيلية في فلسطين، وأن الشروط الإسرائيلية ستفرض على العرب، خصوصاً أن الكثير من دولهم، ولا سيما في الخليج تنازلت عن خطة السلام مقابل الأرض، وأنها ستقبل بأي شيء، وهذا دليل برأي الأوساط القيادية الأميركية على أنّ العرب قد قبلوا بالهيمنة الإسرائيلية. هذا صحيح بالنسبة إلى بعض الأسر الحاكمة في بعض الخليج العربي، إذ من الممنوع إبداء الرأي، لكنه غير صحيح بالنسبة إلى الشعوب العربية. انظر إلى الصحافة الكويتية التي ترفض القرار الأميركي. الكويت بلد خليجي يتمتع بالحرية، وفيه صحافة تعبّر عن الرأي العام، وفيه انتخابات وبرلمان ومؤسسات وهناك شعب حر عربي أصيل، قد نختلف معه في الكثير من القضايا، لكن لا خلاف معه في أولوية القضية الفلسطينية، وهذا أمر ينسحب على كل الشعوب العربية».
يقودنا ذلك إلى القول إن قرار ترامب يحرج الأسر الحاكمة في دول الخليج العربي والكثير من الأنظمة العربية الحليفة للولايات المتحدة، وهناك رأي يقول إنه ما كان لترامب ليتخذ هذا القرار لولا ما لمسه من تراجع هؤلاء وتنازلهم عن القضية الفلسطينية، معزّزاً بالتنسيق السعودي الإسرائيلي.

أوروبا لم تعد تنظر إلى
الولايات المتحدة كحليف
يمكن الوثوق به
السؤال: إلى أين يمكن أن تذهب السعودية في علاقاتها مع إسرائيل، وهل يمكن أن نشهد في المرحلة القادمة تفاهمات علنية إسرائيلية سعودية؟
«في المقابلة التي أجراها وزير الاستخبارات الإسرائيلية يسرائيل كاتس، مع موقع «إيلاف» السعودي، يتحدث فيها عن مشروع خط سكة الحديد بين حيفا والخليج، يقطع الطريق على إيران ومضيق هرمز لأنه ينقل البضائع بين الخليج والمحيط الهندي والبحر المتوسط. وزيارة الوفد البحريني لإسرائيل تعبّر عن استعدادهم للمضي بعيداً في التطبيع معها. البحرين ليست دولة مستقلة، وهي تخضع للنفوذ السعودي بالمطلق، ولا يمكن أن تجري مثل هذه الزيارة دونما موافقة، بل ودونما إرشاد سعودي. التنسيق السعودي الإسرائيلي والمدى الذي يمكن أن يصل إليه يعود إلى الوضع الداخلي السعودي، وإلى التحركات الشعبية العربية. الهاجس الإيراني لدى الملك سلمان وابنه يحكم الكثير من قراراتهما. في عام ١٩٤٨ كان الموقف السعودي معارضاً لموقف ومشروع عبدالله ملك الأردن الذي كان متفاهماً آنذاك مع الحركة الصهيونية وبريطانيا على نوع من التقسيم. عارض اللبنانيون والسوريون ذلك المشروع من منطلقات وطنية عروبية، بينما عارضها السعوديون والمصريون لأسباب أُسرية ملكية، وضغط الرأي العام والأحزاب المصرية التي كانت تؤيد الفلسطينيين، ولا سيما الاخوان المسلمون والحزب الاشتراكي ومصر الفتاة وغيرهم».
بعث وزير الخارجية الأميركي جورج مارشال في كانون الأول من عام ١٩٤٨ برسالة إلى الملك عبد العزيز آل سعود يشكره فيها على دوره في تهدئة العرب، وعلى مساعدته للولايات المتحدة في سعيها لإنشاء دولة إسرائيل. وهناك الكثير من الرسائل المشابهة في أرشيف وزارة الخارجية الأميركية التي تمكّن الخالدي من الاطلاع عليها، لذا يفيد بأنه «منذ البداية لم يكن لدى السعودية مشكلة في إقامة دولة إسرائيل. والتعامل السعودي مع إسرائيل نشط خلال حرب اليمن في الستينيات.
فبعد الثورة اليمنية ضد على الإمامة، وقبل انضمام الولايات المتحدة إلى الحلف ضد عبد الناصر والجمهوريين في اليمن، كانت بريطانيا الداعم الأساسي للسعودية في حربها اليمنية. كانت الأسلحة التي تصل إلى الإماميين عبر السعودية بريطانية المصدر، وكانت المخابرات البريطانية تعمل في اليمن وتدعم السعودية والإماميين بتأثير من مجموعة عرفت بمجموعة «السويس»، لأنها حرّضت بريطانيا على شنّ حرب على جمال عبد الناصر بعد تأميمه للقناة. هذا المجموعة قادها جوليان إيموري عضو البرلمان، والمسؤول السابق في «الام آي ٦»، وكان يتمتع بنفوذ هائل في أوساط حكومة هارولد ماكميلان المحافظة. إيموري هو من صالح إسرائيل قبل عام ١٩٥٦ مع البريطانيين الذين كانوا يكنون العداء لها بسبب ما قامت به من عمليات ضدهم عصابات «شتيرن» و«الأرغون» الإرهابية الصهيونية خلال سنوات انتدابهم الأخيرة في فلسطين. إيموري هو من أقنع البريطانيين أيضاً، بإيكال جزء من تلك الحرب في اليمن إلى إسرائيل. جرى الاتفاق بين إسرائيل والسعودية وبريطانيا على تقديم السلاح والدعم إلى الإماميين، وكانت الطائرات الإسرائيلية تحلّق فوق البحر الأحمر وإثيوبيا وتحطّ في القاعدة الفرنسية في جيبوتي ثم تنقل الأسلحة إلى القوات الإمامية في اليمن. البريطانيون لم ينشروا كعادتهم أي وثيقة عن هذا الموضوع. التسريبات جاءت من المخابرات الأميركية».
وقف الأميركيون، في عهد جون كينيدي على الحياد، الذي كان لا يزال يأمل آنذاك التقارب مع جمال عبد الناصر، وهو موقف تغيّر بعد موته، مع وصول نائبه ليندون جونسون إلى السلطة الذي راح يدعم السعودية، لأسباب كثيرة. المهم إذاً أن جزءاً كبيراً من الأسلحة التي أرسلها السعوديون إلى اليمن خلال الحرب من ١٩٦٢ إلى ١٩٦٧ حملتها الطائرات من إسرائيل، ولكن لم يكن السعوديون على تنسيق دائم مع إسرائيل.
يقول الخالدي: «استاء السعوديون كثيراً من الرفض الإسرائيلي، قبل حرب تشرين ١٩٧٣، لعرض تقدم به الرئيس أنور السادات لإجراء صلح منفرد معهم مقابل الانسحاب من سيناء من دون أية مطالب أخرى، بالشروط نفسها التي توصل إليها اتفاق كامب دايفيد عام ١٩٧٩. الرسائل والوثائق حول هذا العرض الساداتي متوافرة في وزارة الخارجية الأميركية. نعم، هذا العرض نملك كل الوثائق عنه من ١٩٧٠ إلى ١٩٧٣ في أرشيف الخارجية الأميركية. السعوديون غضبوا من رفض كيسنجر وإسرائيل لهذا العرض المصري الذي كان يقدم تنازلات هائلة جداً، على إثر ذلك أيدوا سوريا ومصر خلال حرب تشرين، وقطعوا النفط عن الغرب بعد ١٩٧٣ بسبب انزعاجهم من الغباء الأميركي. يا جماعة، العرب يريدون تقديم استسلام في صيغة سلام منفرد وأنتم ترفضون، السادات يقسّم العرب، يقوم بعملكم وأنتم لا تقبلون؟».
إذا نظرنا إلى هذا السياسة السعودية منذ ١٩٤٨، وجدنا إلى جانب المعلن منها السياسة الخفية، وهي الفعلية التي تستحق الثناء والشكر من الأميركيين. اليوم، ما كان خفياً أصبح هو العلني، فمع ما نشهده من مواقف عربية وسعودية وإسرائيلية وأميركية تتضافر لمواجهة إيران، ومواجهة النفوذ الإيراني كما يقولون، وأنت حدثتني عن تحفظ الدولة العميقة عن قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، مع تأييدها في المضي مثله لمواجهة إيران، هل نحن إزاء أولوية أميركية جدية من هذا النوع؟
«أعتقد أن ما حاول أن يقوم به الرئيس السابق باراك أوباما من اتفاق نووي مع إيران حظيَ بتأييد الكثير من الدولة العميقة، ليس لأن الاتفاق يصبّ في مصلحة الطرفين، وليس للقناعة بأن أي حرب أميركية إسرائيلية ضد إيران ستلقى الفشل فحسب، بل لأن كل تقييم عسكري أميركي يستنتج أن الأمر في غاية الصعوبة. الدولة العميقة بأكثرها كانت تؤيد مهادنة إيران، والآن جاء دونالد ترامب ونصب أناساً كجيمس كيلي رئيساً لأركان البيت الأبيض، وجيمس ماتيس وزيراً للدفاع. وجاء ريكس تيلرسون، الذي سيترك الإدارة قريباً، لأن الرجل كان مدير «اكسون» أكبر الشركات النفطية الأميركية، التي تملك مصالح مهمة في الحفاظ على علاقات طيبة مع إيران، لأن حصتها كبيرة في حقل الغاز القطري وسط الخليج، المتصل بالحقل الإيراني، وأي مواجهة مع إيران ستخرّب مصالحها. لذلك، يتصرف تيلرسون بعقلانية مقارنةً بالآخرين. أما الآخرون، كماتيس وكيلي، فلا ينسون الماضي. هناك الأحقاد المتراكمة منذ أزمة رهائن السفارة الأميركية في طهران، وما حصل بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وتفجير السفارة الأميركية، ومقر المارينز في بيروت، وماتيس وكيلي كانا جنرالين في العراق، وهما يُعدّان لمواجهة مع إيران. الحرس الثوري هو أيضاً لم ينسَ أن الغاز السام العراقي جاء من الغرب، وأن الصور الجوية لمواقعه على جبهات القتال كانت تصل إلى قيادة الأركان العراقية من الغرب. مع ذلك، إن هذا الاستعداد هو لتصعيد المواجهة، وليس لشنّ حرب أميركية مع إيران، من طريق حلفاء عرب وإسرائيل، وهم في الحقيقة لا يعرفون كيف يواجهون إيران، لأن الأمور تزداد تعقيداً مع دخول روسيا إلى سوريا، والخلاف مع الأتراك، والتقارب بين إيران وتركيا».