عمان | يبدو ضرباً من الغفلة الالتفات إلى تهديد إسرائيل الأردن بالتعطيش، والتعامل مع الأمر كأنه وعيد لم يسبق له مثيل، لأن هذا التهديد يفقد قيمته أمام حقيقة مفادها أن الإجراءات الإسرائيلية منذ زمن الانتداب البريطاني حتى اليوم تعمل على سرقة مياه الإقليم. فالوكالة اليهودية قبل إعلان «دولة إسرائيل» كانت قد مهدت لكيان يستحوذ على مياه الأحواض المائية السطحية والجوفية في المنطقة، وأهمها حوضا نهر اليرموك ونهر الأردن.
حتى إن التوسع «الإسرائيلي» ــ على شكل استيطان أو احتلال أو من طريق إبرام معاهدات واتفاقات على مشاريع مائية مع الجوار ــ احتكم بصورة رئيسية في ترسيماته وخرائطه إلى مجاري المياه السطحية ومنابعها إضافة إلى البحيرات والآبار الجوفية.
المعضلة المائية الأردنية لها أسبابها الطبيعية الخاصة بجغرافية المنطقة التي يعد جزء كبير منها صحراوياً، وأخرى متعلقة بالمناخ، وهذا أمر مرتبط بقضية الاحتباس الحراري العالمية وتأثيرها السلبي في معدلات سقوط المطر. وقد لجأت المملكة إلى بناء مجموعة من السدود (بسعة تخزينية إجمالية تصل إلى حدود 335 مليون متر مكعب)، علماً بأن سبعة من هذه السدود أنشئت بعد توقيع معاهدة وادي عربة مع إسرائيل عام 1994، ومعظم ما توفره يُستخدم للري. لكن في أفضل السيناريوهات، والحديث هنا عن أعوام الوفرة المطرية وامتلاء السدود بسعتها الكاملة، فإنها ستغطي ما نسبته 35% فقط من احتياجات الأردنيين التي تربو على مليار متر مكعب سنوياً!
في البحث عن حلول أخرى، نُفّذ استمطار صناعي العام الفائت، وقالت الجهات الرسمية إنه ناجح، فيما تعالت أصوات تقلل من أهمية هذه التجربة لأنها مكلفة وغير مجدية ولم تشكل علامة فارقة في الموسم المطري. أما على صعيد البنى التحية، فإن التحدي كبير عندما يتعلق الأمر بـ«فاقد المياه»، إذ لا تزال نسبة الهدر عالية لبلد يحتاج كل قطرة ماء.
من هنا تحديداً، انطلقت عملية خصخصة قطاع المياه عام 1999، وبدأ حصول الأردن على قروض من البنك الدولي لتجديد شبكات التوزيع والصرف الصحي. وعند انتهاء عقود الخصخصة مع الشركة الفرنسية وشركائها من القطاع الخاص، أُسِّسَت ثلاث شركات حكومية على أسس تجارية تملكها بالكامل سلطة المياه في الشمال والوسط والجنوب، وذلك لإدارة المرافق المائية والصرف الصحي. ولكن بقي الضخ الجائر للمياه الجوفية من أهم النقاط المؤثرة في مخزون المياه غير المتجددة، علماً أن قانون العقوبات الأردني يحتوي على مواد تتعلق بمحاسبة المعتدين.
بعد كل ذلك، جاء آخر تصريح رسمي عبر وزير البيئة ياسين الخياط، الذي قال قبل نحو أسبوع إن الأردن أصبح الدولة الثانية فقراً مائياً في العالم بالنسبة إلى حصة الفرد، بعد تراجع حصته إلى 120 متراً مكعباً في السنة عام 2016. وأوضح أن حصة الفرد السنوية من المصادر المتجددة أقل من 100 متر مكعب للفرد، في حين أن خط الفقر المائي العالمي هو 500 متر مكعب للفرد في السنة. أما عن المعطيات التي ارتكز عليها الوزير في تعليل هذه المأساة، فربطها بالمناخ وشحّ الموارد المائية والهجرات القسرية، وخص بالذكر اللجوء السوري الذي بات رسمياً شمّاعة المشكلات في المملكة.

أين إسرائيل من المشكلة؟

هذه ليست المرة الأولى التي يتجاهل فيها الخطاب الرسمي الأردني إدانة ممارسات الجانب الإسرائيلي في قضية المياه؛ الأمر لا علاقة له بسرد مظلومية في سياق درامي، بل بوقائع وأرقام لها مدلولاتها اتصالاً بالأسباب المذكورة في الفقرات السابقة. فقد كان فريق التفاوض الأردني في معاهدة وادي عربة قد روّج ضمن مميزات الاتفاق لحل أزمة المياه بعد تطبيع العلاقات، ولكن بعد 23 عاماً من «سلام مفترض وتعايش» (راجع العدد ٣٣٠٨ في ٢٦ تشرين الأول http://www.al-akhbar.com/taxonomy/term/6773) يتحمل الأردن «مديونية مائية» لإسرائيل، فيما تحوّل الأخيرة مجرى مياه نهر الأردن من نقطة تقع قبل بحيرة طبريا، ثم تجرّ المياه إلى جنوبي الأرض المحتلة عبر أنبوب يصل إلى مشارف صحراء النقب.
لم يفاوض الجانب الأردني على مسألة التحويل هذه بما يضمن له حقوقه، وقد كان بالإمكان على أقل تقدير ممارسة حقه الديبلوماسي بالتوجه عبر القنوات الدولية إلى تقديم شكوى رسمية عن الممارسات الإسرائيلية التي أدت إلى انخفاض منسوب مياه نهر الأردن وما أثر ذلك في البحر الميت ومستواه. لكن ما حدث على أرض الواقع كان الالتزام التام بالمادة السادسة من معاهدة وادي عربة التي لم تحدد بوضوح الكمية الإجمالية لحوض نهر الأردن وحصة كل طرف فيها، نتيجة عملية التحويل الإسرائيلية.
أما عن تبادل المياه، فحصة إسرائيل من مياه بمواصفات معينة تستوفى من مياه نهر اليرموك أولاً قبل أن يحصل الأردن على حصته، ثم تستبدل مياه اليرموك بمياه نهر الأردن التي تضخ للأردنيين من دون معيار، من بحيرة طبريا، علماً بأن هذه المياه مالحة نسبياً. كذلك يعيدنا الحديث عن هذا الموضوع إلى حادثة عام 1998 عندما عجزت محطة «زي» الأردنية عن تنقية تلك المياه، ووصلت إلى بيوت المواطنين ملوثة.
موضوع نهر اليرموك وسد الوحدة المقام عليه لا يقتصر على جزئية تبادل المياه مع الإسرائيليين، بل يتعدى ذلك إلى أزمة مع الجانب السوري الذي يقع معظم اليرموك في أراضيه، ويقيم سدوداً على الأنهار المغذية للنهر، وهو ما قلل كمية المياه في السد، فضلاً عن استهلاك الزراعة في الأراضي القريبة منه من الجانب السوري، فيما يمنع على الجانب الأردني الزراعة من ناحيته حتى لا تؤثر في سحب المياه. ومع انعكاس منسوب مياه سد الوحدة على حصة إسرائيل بالضرورة، عُوِّض النقص من طريق تسجيل مديونية مائية، كأن الجانب السوري هو السبب فيها وليس الاحتلال الإسرائيلي!

خط أحمر آخر

بالانتقال إلى المياه الجوفية، جنوب المملكة في وادي عربة، فقد أقامت إسرائيل في المناطق التي كانت تسيطر عليها من الأرض الأردنية آباراً لضخ هذه المياه، وعند استعادة «السيادة» الشكلية عليها وفق اتفاقية التسوية، بقيت هذه الآبار للاستخدام الإسرائيلي، إذ لا تستطيع عمّان دفع تعويضات باهظة مقابل هذه الآبار ومعداتها. وفقاً للمعاهدة «يُمنع على الأردن اتخاذ أي إجراءات قد تؤثر في تقليل الكميات المستخرجة من هذه المياه أو نوعيتها، لذلك لا آبار أردنية في المنطقة للاستفادة من المياه الجوفية».

سجلت إسرائيل
مديونية مالية
على الأردن بسبب
سدّ الوحدة


القسمة غير العادلة للمياه بحكم «وادي عربة» لم تثنِ الجانب الأردني عن الاستمرار بعلاقته مع لصّ المنطقة الإسرائيلي، بل ذهب النظام إلى إبرام مشاريع مستقبلية، كان آخرها «ناقل البحرين» (ما بين البحرين الأحمر والميت، كذلك توجد خطة لمشروع آخر بين البحرين المتوسط والميت غضّ الطرف الإسرائيلي النظر عنها بسبب تكلفتها). حتى هذا المشروع ــ بين الميت والأحمر ــ صار مستقبله ضبابياً بعد ما تناقلته الصحافة العبرية عن تجميد العمل فيه، ما دفع السلطات الأردنية إلى مخاطبة الخارجية الإسرائيلية وطلب رد رسمي عن عزم تل أبيب الاستمرار في المشروع، بعد ما بات يعرف بحادثة السفارة التي راح ضحيتها مواطنان أردنيان بنيران حارس إسرائيلي كان يعمل في السفارة الإسرائيلية.
والملاحظ أن المملكة تتمسك بمشروع ناقل البحرين، وتبدي العزم على تنفيذه منفردة إن انسحبت منه إسرائيل، وقد تحول الموضوع إلى نوع من التحدي، رغم الأصوات البيئية المعارضة للمشروع، لأن طبيعة البحر الميت وتركيبه الكيميائي والبيولوجي ستتأثر، كما ستضرر منشآت ومشاريع أقيمت بعد انحسار مياه البحيرة المالحة، إضافة إلى ما سيشكله ضغط الماء المحوّل من المشروع على قاع البحر، وهي منطقة ذات نشاط زلزالي.
من جانب آخر، سيتحمل الأردن تكلفة المشروع رغم أن البحر الميت «مشترك» جغرافياً مع فلسطين المحتلة. ووفق ما ورد في الموقع الرسمي الأردني لسلطة المياه ــ ناقل البحرين، فإن «المشروع مجدٍ اقتصادياً بشرط تمويل الجزء الذي لا يعود بمردود مالي (حماية البحر الميت شاملاً الخط الناقل للمياه بين البحرين) والبالغ نحو 4.5 مليارات دولار من الجهات المانحة، لأن البحر الميت إرث عالمي تقع مسؤولية حمايته على المجتمع الدولي، ولا يمكن تحميله على كلفة تحلية المياه ونقلها إلى الجهات المستفيدة... باقي كلفة المشروع البالغة نحو 6 مليارات دولار للتحلية وتوليد الطاقة ونقل مياه التحلية إلى مراكز الاستخدام ستمولها القروض والمستثمرون والأطراف المستفيدة».
لكن في ظل الأزمة الاقتصادية التي تواجه الأردن وارتفاع مديونيته، بجانب تراجع المساعدات الدولية للاجئين السوريين ومناقشات البرلمان الأردني للموازنة المطروحة لعام 2018، هل هناك مجال لقرض آخر وديون جديدة والمواطن الأردني يدفع فاتورة سياسات اقتصادية غير تنموية تقوم على سداد عجز ضمن واقع اقتصادي لا صناعة حقيقية فيه ولا زراعة، وفوق ذلك عطش لا يحتاج الشعور به إلى تهديد أصلاً؟




خسائر مائية على الحدود كافة

يتشارك الأردن مياهه السطحية والجوفية مع ثلاث جهات: السعودية عبر المياه الجوفية في حوض الديسي، وسوريا عبر حوض نهر اليرموك، وإسرائيل التي تسرق مياه حوض نهر الأردن والمياه الجوفية جنوبي المملكة.
أُخرجت إسرائيل من دائرة الخلافات المائية بخسائر كبيرة للأردن من بعد توقيع «وادي عربة»، وهذا ما لا تعترف به عمّان، بل تتعامل على أن ما حدث «قسمة عادلة». أما الخلاف مع السوريين، فكان عنواناً لمباحثات طويلة بين الجانبين أفضت إلى توقيع اتفاقية لإنشاء سد الوحدة عام 2007. ومع اندلاع الأزمة في سوريا، سيطرت الجماعات المسلحة على المنطقة الجنوبية الغربية من سوريا التي يمرّ منها نهر اليرموك. في ذلك المثلث الواقع بين الأردن وسوريا وفلسطين المحتلة، يتأكد أكثر فأكثر أنه في صراع المياه الأقوى هو من يؤمن احتياجه أكثر ما يمكن.






1.1 مليار دولار لمياه مُشعّة؟

بدأ عام 2014 ضخ مياه مشروع الديسي جنوبي الأردن من حوض مائي جوفي مشترك مع السعودية التي يقع ثلثاه في أراضيها. منذ بدء المشروع شكك كثيرون في صلاحية هذه المياه، معتمدين على دراسة علمية أجراها باحثون أجانب، منهم باحث إسرائيلي، تتحدث عن احتواء هذه المياه على مواد مشعة. ولم تنكر وزارة المياه الأردنية ذلك الأمر، بل قالت إن نسب الإشعاع ضمن الحدود الوطنية التي يمكن التعامل بها. وهذا المشروع، الذي فاقت تكلفته 1.1 مليار دولار، نفذه مستثمرون من تركيا والولايات المتحدة، بتمويل أميركي وأوروبي، فيما كان بناء مرافق المشروع من نصيب شركة تركية.