«أوسلو» ليس التوسع الإسرائيلي من دون رادع فحسب، ولا الاستيطان أو التنسيق الأمني وحدهما. الدراسات النقدية تكاثرت في السنوات الأخيرة حول شقّه الآخر، أو ما بات يسمى «اقتصاد أوسلو». الباحثون الذين عكفوا على دراسة الظاهرة خلصوا إلى أن تبنّي «النموذج النيوليبرالي للتنمية وبناء السلام»، كما روّج له المجتمع الدولي، واعتنقته السلطة الفلسطينية، لم يمس نظام الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، بل وفّر له فرصة تجديد نفسه. هذا النقد الذي يدور على أرضية اقتصادية يملك أهمية مضاعفة، خصوصاً أن مرحلة أوسلو تتميز بفصلها بين الاقتصادي والسياسي في الأراضي المحتلة.

ليست من الجدية بشيء محاولات حمل الفلسطينيين على الفصل بين تطلعاتهم السياسية والاقتصادية. فتحت الانتداب البريطاني، كانت سلطاته ترفض الاعتراف بالعرب جماعة وطنية ناجزة ذات حقوق سياسية، فيما كانت تدعم الأنشطة الاقتصادية للفلسطينيين لتحسين شروط حياتهم، أملاً بامتصاص غضبهم وتقليص الأكلاف السياسية والمادية لحالة التمرد شبه المستمرة.
إنّ هذا الدعم لا يقارن بالطبع بما كان يقدّم إلى الحركة الصهيونية، ولم يكن كافياً، بطبيعة الحال، لانتشال الفلاحين والعمال من الفقر المدقع. اتبعت السلطات الصهيونية سياسة مشابهة في كل الاراضي المحتلة في عامي ٤٨ و٦٧. ومجدداً، إن الترويج للتنمية الاقتصادية تحايل يتملص من المطالب الوطنية. بفضل هذه المبادرات اخترقت إسرائيل اقتصادياً المناطق العربية على جانبي حدود ١٩٤٨ لدمجهم في دورة اقتصادها. ينحو ذلك أيضاً إلى قطع الطريق على بناء اقتصاد وطني مستقل يشكّل أرضية لكفاح سياسي معادٍ لإسرائيل. إن الهدف النهائي هو استيلاد نخبة فلسطينية ممالئة، بينما يرزح المقاومون تحت تهمة اعتراض سبل التطور. وهكذا، فإن الانتقال من زراعة اكتفاء محلي إلى التصدير، والتصنيع وإلحاق المؤسسات الفلسطينية بالإسرائيلية، وتوجيه صادراتها نحو الأسواق الإسرائيلية والأوروبية، واستخدام العمالة الفلسطينية في إسرائيل... كلها سياسات ربطت ارتفاع مستوى حياة الفلسطينيين وزيادة تبعيتهم الاقتصادية بضعفهم السياسي.
إن هذا الضعف السياسي يثقل على الفلسطينيين، خصوصاً أن الإسرائيليين هم من يسيطر على المعابر مع الأراضي الفلسطينية وحركة النقل فيها. إن إغلاق هذه المعابر، وتحديد حركة النقل والتبادل، أصبحا وسيلة ضغط تلجأ إليها إسرائيل أكثر فأكثر لمعاقبة المجتمع الفلسطيني، وهو مجتمع يعيش على حافة الاختناق الاقتصادي وتحاصره أزمة إنسانية متواصلة، كما هي الحال في غزة. إن سياسات التنمية والدمج والاستتباع الاقتصادي للفلسطينيين جزء من استراتيجية إسرائيل لكبح أيّ تمرد، وشكل من أشكال العنف الذي لا يفصح عن نفسه.
إن عملية السلام التي انطلقت عام ١٩٩٠ تنفرد بأنها قادت السلطة الفلسطينية لتقوم بنفسها بالفصل ما بين السياسي والاقتصادي، وتصبح حلقة في نهج معاد لأيّ طريق ثوري، وضد شعبها. لم تضع اتفاقات أوسلو حداً للاحتلال، وأجّلت الحل النهائي للصراع. لكن هذه الاتفاقات تتضمن مع ذلك نقل بعض الصلاحيات المدنية والإدارية إلى «سلطة فلسطينية مستقلة ومؤقتة»، وتطوي تعاوناً اقتصادياً وأمنياً بينها وبين إسرائيل. يضاف إلى ذلك التزام الأسرة الدولية بتقديم دعم مالي للفلسطينيين المنخرطين في عملية السلام. كان الهدف من ذلك تقديم دليل ملموس للفلسطينيين على فوائد السلام من خلال دعم التنمية الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية. وكلّف البنك الدولي بتحديد الإطار الذي ستستخدم فيه المساعدات الدولية. وعلى هذه الأرضية، عالج البنك الدولي هذه القضية بطريقة تقنية بحتة، متجاهلاً أبعادها السياسية، أي من دون أي اعتبار للقضايا المتعلقة بمفاوضات الحل النهائي للصراع، والمطالب السياسية للفلسطينيين أو حتى بسيادة دولتهم.
وضعت في مقدمة الأهداف «الحاجات الاقتصادية» التي تسمح بالتعاون الحقيقي والفوري بين كل الأطراف، انطلاقاً من أن التكامل الاقتصادي هو الطريق الأيسر نحو السلام. وجرى اتباع برنامج نيوليبرالي عمداً. جرى التركيز على النمو، والمنافسة في القطاع الخاص ولبرلة القطاع المالي، والاندماج في الاقتصاد الاقليمي والعالمي. وكان لافتاً أنه لم يكن هناك أيّ اعتبار للسلطة الفلسطينية إلا من خلال الأدوار التي كانت تقوم بها (في القطاع العام، والإنفاق، والبنى التحتية، والخدمات الاجتماعية)، حتى أنه لم يكن هناك ما يبرّر وجودها سوى توفير شروط مناسبة للنشاط الاقتصادي.
ومع ذلك، وجدت السلطة الفلسطينية أن حقل نشاطها وصلاحياتها محدود بسبب سيطرة إسرائيل على الجزء الأكير من أراضيها. كذلك وجدت نفسها تابعة مالياً للضرائب التي تجنيها السلطات الاسرائيلية على الصادرات الفلسطينية، والتي لم تكن تتردد في وضع اليد عليها كإجراء عقابي. كذلك وجدت نفسها مقيّدة بالتبعية للمساعدات الدولية التي كانت تمنح مزاجياً وبشروط سياسية. اضطرت السلطة الفلسطينية على الدوام إلى تقديم البراهين على حسن سلوكها، لكي تتمكن من الحصول على المساعدات الضرورية لبقائها، متجاهلة كلياً شرعيتها إزاء شعبها.
وبينما كان الاستيطان يتواصل ويتعرض الفلسطينيون للعنف والقمع، كانت السلطة مجبرة على مواصلة سياسة إعادة الهيكلة الاقتصادية وتطهير المؤسسات، وبناء اقتصاد سوق. إن هذه الطلبات لاقت تجاوباً من قبل السلطة، كما تشهد على ذلك السياسات الليبرالية المتّبعة من قبل الحكومات الفلسطينية في عقد كامل. وينعكس ذلك أيضاً في الإصرار على تطوير الأجهزة الأمنية الفلسطينية.
أشرفت الولايات المتحدة، ولا تزال، على تطوير الاجهزة الامنية التي تشكّل جزءاً من منظومة تعاون مع إسرائيل. في الواقع، أدّت تلك التدابير إلى تعزيز نخبة فلسطينية مركبة من قادة السلطة ومن رأسماليين فلسطينيين، ومنظمات غير حكومية. يعود ازدهار هذه النخبة إلى تدفق الرساميل الأجنبية، واستيراد المنتجات الاستهلاكية، ونمو قطاع الخدمات والبناء. وهي قطاعات لم تتأثر بالتوسع الاستيطاني ولا بنقص السيادة الفلسطينية.
من جهة ثانية، أدى التعاظم الهائل لمديونية الأفراد لتمويل الاستهلاك في الضفة الغربية الى التأثير بقوة على قدرة الحشد والتعبئة الشعبية والنضال. في المقابل، فرضت السلطة الفلسطينية نفسها لاعباً اجتماعياً واقتصادياً لا يمكن تجاهله، بعد أن أصبح التوظيف في القطاع العام المورد الرئيسي للكثير من العائلات. كذلك فإنه تحوّل إلى وسيلة لشراء السلم الاجتماعي ومنع أيّ تحركات سياسية.
تناقضات من دون حدود تسهم في إضعاف العمارة السياسية الفلسطينية، وفي المزيد من الرفض لقيادتها.
* باحث فلسطيني