تونس | كانت حميدة العجنقي في الواحدة والعشرين من عمرها عندما أُلقي القبض عليها في التسعينيات بتهمة جمع المال لمساعدة السجناء في تونس. جردتها الشرطة من ثيابها وهُددت بالاغتصاب بعد تعرضها للضرب، وهي حتى الآن بانتظار اعتذار من الدولة التونسية عن الانتهاكات التي ارتكبت بحقها في ظل نظام بن علي.
«لا أريد مالاً أو أي نوع من التعويضات، أريد فقط أن يشهد أولادي على اعتذار الدولة التونسية من أمهم. وأريد أيضا أن تدوّن هذه الحقبة في كتب التاريخ وألا يطويها النسيان»، تقول حميدة التي تبلغ اليوم الثامنة والأربعين من العمر والتي قامت بكل ما يمكنها القيام به كي لا ينسى التونسيون. أدلت بشهادتها في مقالة نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» عام 2015 وتحدثت من خلالها عن كل ما عانته، ثم ظهرت على شاشة التلفزيون الوطني ضمن جلسات الاستماع العلنية لهيئة الحقيقة والكرامة، وهي هيئة مسؤولة عن عملية العدالة الانتقالية في تونس.
لكن بالنسبة إلى حميدة، كل هذا غير كاف. وهي اليوم، شأنها شأن غيرها من الضحايا، تخشى ألا تستكمل القضية لأن ولاية الهيئة تنتهي خلال سبعة أشهر، ولا يبدو أن الدولة أو المحكمة في صدد تولي أمر العدالة والمصالحة التي يجب أن تأتي لاحقاً. وقد صادقت رئاسة الجمهورية على قانون بشأن المصالحة الإدارية بعد عامين من النقاش البرلماني والخلاف.

على مدى ثلاث سنوات، لم يُسهّل عمل هيئة الحقيقة والكرامة

إلا أن هذا القانون أثار انتقادات حركة المجتمع المدني «مانيش مسامح» ومنظمة «I Watch» غير الحكومية المعنية بمكافحة الفساد باعتبار أنّه مخالف للدستور وأنه يخلق عملية موازية للعدالة الانتقالية. «المشكلة في هذا القانون تكمن في كونه يقوم بالضبط بما نقوم به من خلال التحكيم مع أولئك الذين يطلبون المصالحة، إلا أنّه لا يقدّم تقريراً، ولا أرشيفاً وليس هناك أي شفافية في آلية عمله»، تقول رئيسة الهيئة سهام بن سدرين. كما أنه ما زال على القانون المرور تحت المراقبة الدستورية المؤقتة بسبب اعتراض بعض النواب على إقراره خلال التصويت في البرلمان. ومنذ ذلك الحين، لم تتمكن الهيئة المكوّنة من ستة أعضاء من التوصل إلى اتفاق ليُصار لاحقاً إلى إرسال القانون إلى رئيس الجمهورية الذي صادق عليه الأسبوع الماضي. وتواصل هيئة الحقيقة والكرامة العمل على 626 62 قضية رفعت منذ إنشائها عام 2014. بينما جلسات الاستماع المغلقة (عددها 42 ألف جلسة في الوقت الحاضر) والتي تنتهي في تشرين الثاني/ نوفمبر، وهي بصدد صياغة تقريرها النهائي.
على مدى ثلاث سنوات، لم يُسهّل عمل الهيئة جزئياً بسبب الأزمات الداخلية، لكن أيضاً بسبب الافتقار إلى الدعم السياسي. فعلى سبيل المثال، لم يحضر رئيس الجمهورية أي جلسة استماع. كما أنّه يقف وراء القانون الذي يقترح إجراء مصالحة مع الموظفين الإداريين المتهمين بالفساد. استُخدمت رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين ككبش فداء وحملت مسؤولية الخلل في عمل الهيئة. انتقدت تارة بسبب دورها كقاضية (هي نفسها ناشطة في مجال حقوق الإنسان، وتعرضت للملاحقة والسجن أثناء الديكتاتورية)، وتارة أخرى بتهمة سوء إدارة الهيئة التي شهدت العديد من الاستقالات خلال فترة توليها الرئاسة. إلا أنها واصلت عملها، وهي اليوم أقوى من أي وقت مضى، تتحدث إلى وسائل الإعلام وتطلب حق الرد عندما تتعرض للانتقادات وتقول إنها تنوي إتمام فترة رئاستها للهيئة.
الضحايا من جهتهم، لا يرون في سهام بن سدرين العائق، لكنهم قلقون من عدم نجاح العملية. وقد اعتبرت رئيسة المركز الدولي للعدالة الانتقالية (والذي يضم ائتلاف وجمعيات تعنى بالضحايا وتهدف إلى العمل على مرحلة ما بعد هيئة الحقيقة والكرامة) سلوى غانتري، أنّه «لم يتم بعد إنشاء الغرف المتخصصة التي يتعين عليها النظر في قضايا معينة». وأضافت أنّه «يجب الاستماع إلى أصوات هؤلاء الضحايا ومطالبهم بالعدالة حتى بعد انتهاء مهمة هيئة الحقيقة والكرامة. لدينا قانون بشأن العدالة الانتقالية في تونس وهو يحدد أهدافاً ويجب أن يكون استخدامه متاحاً أمام الضحايا». أما بالنسبة إلى حميدة، التي تأتي كل يوم خميس للتظاهر برفقة ضحايا آخرين أمام هيئة الحقيقة والكرامة كي يحصل تقدم في ملفها، فإن مجرد التجمع إلى جانب ضحايا آخرين هو بارقة أمل. «أعتقد أننا أقوى معاً، وهذا يتيح لنا أن نوصل أصواتنا. على سبيل المثال، توجهنا الأسبوع الماضي لمقابلة رئيس الحكومة للحديث عن إنشاء صندوق الكرامة، رحب بنا وأكد لنا أن ذلك سيحصل»، تقول حميدة.
يعتبر القانون في مادته الثانية أنّ «الكشف عن الانتهاكات حق يضمنه القانون لجميع المواطنين، من دون المساس ببياناتهم الشخصية ومع احترام مصالحهم وكرامتهم». لكن مخاوف الضحايا تبقى مشروعة في مواجهة انعدام العدالة الذي يعانون منه اليوم. تمتلك هيئة الحقيقة والكرامة خيار تمديد فترة ولايتها سنة إضافية، إلا أنّ رئيستها تقول إنها ستنجز عملها في الوقت المحدّد ووفقاً للقانون. «خلال سنة واحدة، وابتداءً من تاريخ نشر تقرير الهيئة الشامل، تستعد الحكومة لوضع خطة وبرامج عمل من أجل تطبيق التوصيات والاقتراحات التي ستقدمها الهيئة. ثم تُقدَّم هذه الخطة والبرامج إلى البرلمان المعني النظر في التشريعات». إلا أنّ السؤال المطروح هنا، هو ما إذا كانت الحكومة التونسية ستتحمل حقاً مسؤولياتها بعد عملية العدالة الانتقالية، وبعد انتهاء عمل الهيئة.