في التعليق على تداعيات أزمة استفتاء الانفصال، يرى أكثر من مصدر عراقي مطلع أنّ «الحراك الكردي قد مُني بضربة قاسية أرجعته سنوات إلى الوراء»، فيما يذهب آخرون إلى القول إنّ «الحلم الكردي كُلّما اقترب من الحقيقة، كانت الكارثة أقسى وقعاً».
هذه التعليقات ليست سوى عيّنةٍ لما يدور من نقاشاتٍ في أربيل وغيرها من المدن الإقليمية، فيما ترى بعض وجوه بغداد الرئيسة أنّ «مسيرة مسعود البرزاني السياسية انتهت»، وخاصة بعدما وجّه، أمس، رسالتين، واحدة للبرلمان وأخرى عبر كلمة له، حدّد فيهما وجهة العملية السياسية في كردستان، بحيث قد يضمن حضوره في الإقليم لاحقاً من باب «التنحي والاستقالة المرحلية»، علماً بأنّ ولايته التي طُعِن بها سابقاً، هي أصلاً تنتهي في نهاية الشهر الجاري، وبناءً على ذلك، فهو كمن «يبيع موقفاً من أكياس غيره».
في الرسالة الأولى الموجّهة إلى برلمان الإقليم، صوّر البرزاني نفسه «حريصاً» على العملية السياسية في الإقليم، مبرراً كيفية تمديد ولايته السابقة وكيفية تأجيل الانتخابات البرلمانية والرئاسية. لكنّ البرزاني لم يذكر بطبيعة الحال أنّه ما كان ليمضي في إجراء تلك الانتخابات إلا بعد إبرام صفقةٍ مع الأحزاب الكردية الأخرى قبيل إجراء الاستفتاء، تقضي بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، في مقابل مشاركتها في «استحقاق الانفصال».
بمبرر «الحرص» على الالتزام بالقانون، أعلن البرزاني رفضه الاستمرار في منصبه بدءاً من الأوّل من الشهر المقبل. وقال: «من الضروري أن يعقد البرلمان جلساته واجتماعاته في أقرب وقت، لملء الفراغ القانوني الذي قد يحدث في واجبات وسلطات رئيس الإقليم، وكذلك لحلّ هذا الموضوع بشكل كامل»، متعهداً بـ«البقاء مقاتلاً في البشمركة، وسط جماهير الشعب، والاستمرار في الكفاح والنضال لنيل حقوق الشعب الكردي والحفاظ على مكتسبات الكرد».
وفي رسالته هذه، وضع البرزاني أسس العملية السياسية في الإقليم للمرحلة المقبلة، بحيث يكون رئيس الحكومة نيجرفان البرزاني، في واجهة المشهد، على أن يكون على «قدرٍ عالٍ من التنسيق مع (رئيس مجلس أمن الإقليم) مسرور البرزاني»، وفق مصادر كردية مطّلعة، التي نفت في حديثها إلى «الأخبار» وجود «أيّ خلاف» بين الطرفين كما يروّج البعض.

صوّر البرزاني نفسه
أمس «حريصاً» على العملية السياسية في الإقليم


لكن في مقابل تبريرات وشروحات مسعود البرزاني، فإنّ الجميع يدرك أنّ ما فعله الأخير جاء كنتيجة للضربة السياسية التي تلقاها، وجاء كذلك كمناورة، إذ بصفته رجلاً ذا نفوذ شديد في إقليم كردستان، فإنّه «سوف يراهن على تراجعه الحالي من المشهد قبل العودة في وقت لاحق مناسب، وخاصة أنّه يصعب تخيّل تخلي واشنطن، كما باريس، والرياض، وتل أبيب أيضاً، عنه، وسماح هذه العواصم بإسقاط آل البرزاني سياسياً، مهما كانت الأسباب»، كما يتقاطع رأي عدد من الشخصيات في قراءتهم للمشهد الحالي. ووفق هذه القراءة، فإنّ أربيل تبقى عملياً على الصعيد السياسي والنفوذ في يد «آل البرزاني».
برغم ذلك، يتساءل آخرون عن مستقبل العائلة البرزانية التي تحتاج، وفقاً لهم، إلى «معجزة تُنقذ وضعها السياسي»، وخاصة أنّها للمرة الأولى منذ عام 1975 تشعر بهذه «الغصّة». لكن نفس هذه المصادر، ومن بينها مصادر سياسية رفيعة في بغداد، تعتقد في أحاديثها إلى «الأخبار»، بأنّ «واشنطن مضطرة إلى الإبقاء على آل البرزاني بسبب تصرفات بعض الأطراف العراقية»، ولأنّهم كما يقول البعض: «حلفاء للأميركيين برغم النكسة الراهنة، ولا بديل منهم حتى الآن».
في السياق، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ قول البرزاني: «لم نتوقع مطلقاً أن تصمت الولايات المتحدة تجاه الهجمة الشرسة التي تعرضنا لها»، فهي تُفسّر بالأساس بتباينات داخل الإدارة الأميركية الحالية، وذلك منذ ما قبل إجراء الاستفتاء. وفي الرسالة الثانية التي ألقاها رئيس الإقليم، اعتبر أنّ «القوات العراقية كانت ستهاجم كردستان والمناطق المتنازع عليها، حتى لو لم يجرِ الاستفتاء»، مضيفاً أنّ «ردود الفعل على إجراء الاستفتاء كانت غير متوقعة... (وأنّ) الشعب الكردي لا صديق له غير جبال كردستان». وتابع قائلاً: «لولا خيانة 16 تشرين الأول (بدء العمليات العسكرية ضد المناطق المتنازع عليها)، لكان الوضع مغايراً هناك»، علماً بأنّ أطرافاً كردية تقول علانية إنّ «أحد أولاد البرزاني شارك في عمليات إعادة الانتشار العسكري، وبالتالي التراجع من المناطق المتنازع عليها»، الأمر الذي يترك الكثير من الأسئلة مفتوحة وبلا أجوبة.
لعلّ مجمل هذه الصورة، يقود نحو القول إنّ «البرزانية السياسية» باقية في الإقليم، لكنّها «لن تتمدّد» بل سوف تحاصر راهناً، وليس من بغداد فحسب، أو طهران أو أنقرة، إنّما من الداخل الكردي. وتؤكّد مصادر رئاسة الجمهورية العراقية، في حديثها إلى «الأخبار»، أنّ الضربة التي وجّهت لأربيل «لم تُعدها فقط إلى عام 2003، بل إلى عام 1991»، وذلك بعدما حسمت بغداد أمرها بفرض سيطرتها على جميع المنافذ البرية مع دول الجوار، في الشرق وفي الشمال، وفي الشمال الغربي. آخر المعابر التي ستتم السيطرة عليها، سيكون «معبر إبراهيم الخليل»، وذلك في الأيام القليلة المقبلة. وللإشارة، فإنّ حكومة بغداد غائبة منذ بداية التسعينيات عن «الإقليم الشمالي»، واليوم يتغنى مؤيدو رئيس الوزراء حيدر العبادي، بخطوته في إعادة «ضبط انتشار» القوات شمالاً، وحصر «البشمركة» داخل «الإقليم»، من دون تماسها مع الحدود الدولية.
في غضون ذلك، فإنّ المشهد السياسي الكردي، بعد يوم أمس، لن يكون كما قبله. فـ«البرزانية» كحالة، و«الطالبانية» كذلك، موجودتان، لكن من دون أن تستطيع كلتا الحالتين إعادة إنتاج أو تصدير قياداتٍ تعيد مسك الشارع الكردي، أقلّه في المدى المنظور. وفي المرحلة المقبلة، قد تُطوى مرحلة «الثنائية الكردية» وسط صعود نجم حركات أخرى، أبرزها «التغيير»، التي برغم وفاة زعيمها نوشيروان مصطفى، فإنّها قد تكون بحاجةٍ إلى «بعض الوقت» لإعادة تنظيم صفوفها والخروج بخطابٍ سياسي متوازنٍ مع بغداد.

ماذا عن بغداد؟

من جهة بغداد، فإنّ جهات سياسية تُعوِّل على «افتراق السليمانية عن أربيل»، الأمر الذي بات واضحاً في ظل الترويج لنجلي جلال الطالباني، بافل وقوباد، وفي ظلّ أمل بعض الجهات الإقليمية (على رأسها تركيا وإيران) بـ«استقطاب أكبر شريحة ممكنة من الشارع الأربيلي المؤيد للبرزاني». إلا أنّ «الآمال» تبقى في إطارها النظري، بانتظار اكتمال مشهد «العلاقة مع بغداد والجوار».
أما بغداد الرسمية التي اعتادت وصف البرزاني بـ«بيضة القبان»، فإنّها أمام مرحلةٍ مغايرة، بعدما وصلت قواتها «المنضبطة» إلى «حدود 2003». (توضح مصادر حكومية في حديثها إلى «الأخبار» أنّ «إيقاف عملية الانتشار قبل يومين لمدة 48 ساعة، مردّه إلى ترك الحوار للجان فنية صغيرة تنفيذية، هدفها ترسيم نقاط حدود الإقليم لغاية 2003»).
إلا أنّ السؤال الذي تطرحه مصادر الحكومة العراقية، هو: هل ستتمكن بغداد أمام هذه «المعمعة» من طرح رئيسٍ للإقليم؟ أو من فرضه بـ«طريقةٍ هادئة»؟ ويقول هؤلاء: «إنّ الحكومة اليوم في أوج قوتها، وسط الدعم المقدّم لنا من جهة، وعزلة البرزاني إثر خيبته من نتائج الاستفتاء وانقلاب الأحزاب الكردية من جهةٍ أخرى»، ويشرحون في الوقت نفسه أنّ العلاقة المستقبلية بين بغداد وأربيل، والتي ستُرسم معالمها قريباً مع انطلاق مفاعيل طاولة الحوار بين الطرفين، قد تحمل «حلَّ الرزمة الواحدة»، أي أنّ بند رئاسة الإقليم سيكون شرطاً للحوار، وخاصّة أنّ أربيل بدأت منذ يوم أمس، بتوجيه رسائل تؤكّد جاهزيتها لبدء «حوارٍ مفتوح» مع بغداد، فيما اشترطت الأخيرة استعادة كل المعابر الحدودية، وإعلان حقيقي عن «إلغاء نتائج الاستفتاء».




«حصر الإرث»... الراهن

يعمل البرزاني على إنجاح عملية «حصر الإرث» السياسي للمرحلة الآتية. لكن مصادر بغداد تصفها بـ«الفاشلة»، إذ إنّ «نيجرفان (ابن شقيق مسعود) صبّ جل اهتماماته على البزنس (الأعمال) وسينتهي قريباً»، في إشارةٍ إلى تجفيف حكومة حيدر العبادي، لمنابع النفط، التي تحكّمت فيها أربيل على مدى الأعوام الماضية. أما مسرور (نجل مسعود)، فيوصف بـ«المتهور»، والذي قد يكون «سبباً للقتال في أربيل بين الأكراد» (ما جرى ليل أمس في بعض المدن الكردية قد يشكِّل دليلاً).
في المقابل، فإنّ تمكّن آل البرزاني من قيادة مواجهةٍ «ثأرية» ضد بغداد باتت «مستحيلة» بعدما «عادت كركوك «قدس أقداس البرزاني» إلى حضن بغداد»، وكل شيء بات مرهوناً بالمفاوضات التي لا بدّ من أن يكون للأميركيين يد طولى فيها... وهنا مربط فرس البرزاني.