تونس | مساء يوم الأحد الماضي، اصطدمت خافرة لجيش البحر التونسيّ بمركب خشبيّ في عرض البحر يحمل مهاجرين تونسيّين نحو الأراضي الإيطاليّة. النتيجة: إنقاذ 38 وانتشال جثث ثمانية شبان، فيما بقيت عشرات الجثث الأخرى في قاع البحر. وبينما ركزت وسائل الإعلام على هويّة المتسبّب في الحادث، وعلى الطبيعة غير القانونيّة لرحلة الهجرة، نُسي الرابط المشترك بين الضحايا، وهو انتماؤهم جغرافيّاً إلى قرى وبلدات غائبة عن خريطة الدولة التنمويّة، وانتماؤهم اجتماعيّاً إلى الفئات الأدنى في السُلّم الطبقيّ.
على وقع الأنباء المسربّة بشأن مشروع قانون ماليّة 2018، والتي تبشّر بمزيد من تدهور الأوضاع الاجتماعيّة، وبناء على الارتفاع المستمر للأسعار والتراجع المطّرد لقيمة العملة المحليّة وبقاء نسب البطالة على ارتفاعها المعهود، عادت ظاهرة الهجرة السريّة. على خلاف أبناء الطبقة الثريّة والطبقة الوسطى العليا الذين تسهّل لهم إمكاناتهم الماليّة ورساميلهم المعرفيّة عمليّة الهجرة القانونيّة، لا يجد أبناء الطبقة الفقيرة سبيلاً غير «الحرقة» التي تعني «حرق الحدود»، أي تجاوزها عنوة، ما دام تجاوزها من بوابات المطارات والموانئ مستحيلاً. لكن «حرق الحدود» لا يأتي إلّا نتيجة «احتراق» داخل الوطن، وفي هذه الحالة قد يعني الأمر نهاية حلم جماعيّ ببلد جديد ومستقبل أفضل وبداية أحلام الخلاص الفرديّ.
يعرف المهاجرون الفقراء أن أوروبا لا ترغب بهم، وأن مصيرهم فيها سوف يتوزّع بين الموت في حروب العصابات الإيطاليّة، والسجون، ومن كان منهم أفضل حالاً سوف ينتهي به الأمر بروليتاريّاً لا مرئيّاً يغسل الصحون في قبو أحد مطاعم مرسيليا أو يعزق الأرض في إحدى قرى صقلية.
مصير هؤلاء لن يكون أفضل في حال البقاء في الوطن، فقد كانوا حطب «الثورة»، وما زالوا حطب الانتفاضات المحليّة التي تقوم بين الفينة والأخرى، ولم يحصدوا سوى مزيد من الإفقار الماديّ والإذلال الرمزيّ على يد السّلطة وأجهزتها الدعائيّة: رعاع، مخربون، جهلة، عُربان؛ هذه هي أوصاف الفقراء على امتداد تاريخ تونس.
لا يتجاوز عمر ظاهرة «الحرقة» ثلاثة عقود. قبل ذلك، أي قبل التسعينيّات، لم تكن أوروبا تمثّل حلماً استثنائيّاً. كان بإمكان أيّ تونسيّ تأبُّط جواز سفره وزيارتها. حينها، لم يغزُ التونسيّون ضفاف المتوسّط الشماليّة، بل كان العمل الموسميّ هناك وتسوّق النساء أمراً عاديّاً. وتكمن المفارقة في تزامن فرض تأشيرة الدخول على التونسيّين مع توقيع اتفاق الشراكة الأول بين تونس وأوروبا، والذي رفع الحواجز على السلع المصنّعة ووضعها في وجه البشر، من جهة واحدة طبعاً.
قتل اتفاق الشراكة بعض الصناعات المحليّة، وما بقي تكفّلت به الخوصصة (الخصخصة). هكذا بات جزء كبير من أبناء العمال والعاملات في المدن المحيطة بالمناطق الصناعيّة وفي الأرياف، غير قادرين على إعادة الإنتاج والترقّي الاجتماعيّ، أي على العيش في الظروف التي عاشها آباؤهم، أو أحسن منها.
شيئاً فشيئاً، صارت المخاطرة في عرض البحر أمراً عاديّاً في الهوامش الحضريّة والأوساط الفقيرة، وخاصّة بعدما خلقت موجات «الحرقة» الأولى شبكات تضامن واحتواء في أوروبا (أبناء الأعمام، وأبناء الحيّ أو الجهة، وحتى رفاق السجن). وفي أحيان كثيرة، صارت المسألة استثماراً عائليّاً، حيث تبيع الأم ما تملكه من مجوهرات، ويستدين الأب، ويساهم الإخوة في تمويل هجرة أحد أفراد العائلة، على أمل أن يعوّضهم المعنيّ بالأمر عند استقرار أوضاعه في الغربة. وفي موجات «الحرقة» الأخيرة، لوحظ وجود نساء حوامل يردن الالتحاق بأزواجهنّ وحتى أمهات طاعنات في السنّ موّل أبناؤهن رحلاتهن إلى أوروبا.
لم تمثّل الظاهرة مشكلة لنظام زين العابدين بن عليّ، بل على العكس من ذلك، إذ سعى (كعادته) إلى استثمارها ودفعها إلى أقصاها. شكّل أفراد من عائلة الرئيس الموسّعة شبكات لتهريب الشبان إلى أوروبا، كانت تحوي أفراداً من الأجهزة الأمنيّة، ويُعرف عن هذه الشبكات أنّ رحلاتها مضمونة. أما من الناحية الرسميّة، فقد سعى النظام إلى استخدام الظاهرة كأداة لابتزاز أوروبا وجعلها طرفاً فاعلاً في المعادلة.
تمثّل الجانب الظاهر من المسألة في تقديم مساعدات لوجستيّة: خافرات ورادارات ومناظير ليليّة وتجهيزات أخرى. أما الجانب الأقلّ ظهوراً، وهو الأهم، فقد تمثّل في الاعتراف ببن علي كشريك أمر واقع قادر على حماية حدود الجيران الشماليّين، وبالتالي دفع الأوروبيّين لتجنّب الخوض في مسائل حقوق الإنسان والحريّات السياسيّة في تونس.
لم يتغيّر الوضع كثيراً منذ رحيل بن علي. في حادثة يوم الأحد الماضي، لاحقت خافرة الجيش البحريّ التونسيّ مركب المهاجرين. طلبت منه التوقّف، ولم يستجب، فقذفته بالمياه حتى كاد يغرق. ينتهي توافق الفريقين بشأن رواية الأحداث عند هذه النقطة، إذ يقول الجيش إنّ المركب توجّه صوب خافرته بغية دفعها إلى التراجع فحصل الاصطدام، أما رواية «الحراقة» فتقول إنّ خافرة الجيش هي التي تعمدت الاصطدام بهم. وبصرف النظر عن دقّة الروايتين، يعكس الحادث استمرار تونس الرسميّة في لعب دور حارس حدود أوروبا، وأغلب الظن أنّ الخافرة التي استعملت في المطاردة هي نفسها حصيلة مساعدة أوروبيّة.
ولمعرفة رأي النخب في الموضوع، يكفي نقل جزء من حديث أحد الإعلاميّين المقربين من السلطة، إذ قال بعد الحادثة على أثير إحدى الإذاعات: «يصل الحراقة إلى شواطئ إيطاليا ويصوّرون فيديوات لأنفسهم وهم يقولون نحن في أوروبا الآن. ما هي الرسالة التي يرسلونها إلى الشباب الذين لا يزالون في تونس؟». يعني كلامه ضمناً أنّ ما حصل درس لكلّ من يريد أن «ينتهك» حدود أوروبا. إلا أنّ ما لا يعرفه هذا الإعلاميّ، ومن ورائه الرسميّون ودوائر المرفهين المنقطعة عن المجتمع، أنّه في الأثناء تختبئ مجموعة من الشباب في منزل آمن ما، في انتظار حلول ساعة انطلاق المغامرة، فيما يسعى شباب آخرون إلى جمع المال اللازم لرحلتهم، ولسان حالهم يقول: «ونحن لم نحلم بأكثر من حياة كالحياة».