تونس | يوم الأربعاء الماضي، حطّ رئيس الجمهوريّة الباجي قائد السبسي، رحاله في مدينة سوسة الساحليّة. وفي مشهد كان التونسيّون قد بدأوا في نسيانه، ظهرت لافتات ممجّدة لشخص الرئيس في طرقات المدينة، واستُقدمت مجموعات من تلامذة المدارس للتصفيق أمام موكب السيارات الرئاسيّة. وفي ما عدا هذه الشكليّات، فإنّ أهم محطات زيارة قائد السبسي تمثلت في مروره على شركة خاصّة لتصنيع الأدوية ومحطّة تطهير قيد الإنشاء، إلى جانب تدشين مشروع تجاريّ خاصّ وُصِف بالضخم، ثم زيارة الملعب الأولمبي بسوسة وتدشين أشغال توسعته.
التحضيرات التي رافقت الزيارة قد تبدو للوهلة الأولى أنها جاءت كاجتهاد من قبل مسؤولين صغار، إلا أنّ الأمر يتجاوز ذلك. فإذا ما جرى التوقف عند ترتيبات الزيارة، سوف تتبدى، إضافة إلى تطلعات الرئيس السلطويّة، المبادئ الضمنيّة التي تقود سياسته العامّة.


رداء بورقيبة المثقوب

لا يتماشى رداء بورقيبة الرمزيّ الذي يرتديه رئيس الجمهوريّة إلا مع الصور الإيجابيّة، وإن كانت مُركّبة. إذ لم تكن زيارة مدينة سوسة ترمي إلى الاستطلاع أو التفقّد، بل كانت زيارة لتحسين صورة الرئيس وسياسته هو وحزبه الحاكم (نداء تونس). ولخدمة هذا الغرض، استُخدمت أداتان؛ أداة الإدارة العموميّة وأداة الوجهاء المقربين منه.
كما سرت العادة في عهدي الحبيب بورقيبة وخلفه زين العابدين بن علي، استنفرت البلديّة (التي يترأسها في انتظار الانتخابات معتمد المنطقة، وهو مسؤول معيّن من رئيس الحكومة) قدراتها، فكنّست الطرقات وسدّت حفرها وعلقت الأعلام ودهنت البنايات الرسميّة وجوانب الأرصفة. لم يكتف المسؤول المحليّ بذلك، بل قرأ في حفل استقبال الرئيس خطبة عصماء في مدح هذا الأخير، وذلك قبل أن يسلمه مفتاحاً معدنيّاً أطلق عليه وصف «مفتاح المدينة». بموازاة ذلك، صدرت الأوامر من وزير التربية حاتم بن سالم، وهو كان آخر وزير تربية زمن بن علي، إلى المندوب الجهويّ للتعليم ومنه إلى مديري المدارس الواقعة في وسط المدينة لإخراج التلاميذ لاستقبال الرئيس. وهي خطوة خلفت حنقاً في صفوف الأولياء الذين لم يُستشاروا في الأمر (وقد تفاقم الأمر بعدما تاه بعض التلاميذ القادمين من ضواحي المدينة، في طرقات سوسة التي يجهلونها)، كما في صفوف نقابات التعليم وأحزاب المعارضة.

قرّع السبسي الإعلام
الذي اعتبر أنّه لا يركز
إلا على السلبيّات
أيضاً، بثّت القناة الوطنيّة العموميّة تقريراً إخباريّاً حول الزيارة اعتبرته «الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعيّ البصريّ» أنّه اتسم بـ«أسلوب دعائيّ لم يحترم قواعد المهنة الصحافيّة».
من ناحية ثانية، تولى رجال الأعمال المقربون من الرئيس، أمر اللافتات الترحيبيّة، فحملت إحداها مثلاً شعاراً مدحيّاً يقول «يا قائد يا حامينا، الله لا ينحّيك علينا». لكن دور هؤلاء لم ينتهِ عند ذلك، إذ إنّ الزيارة برمّتها جاءت باقتراح منهم، وفق ما صرّح به الرئيس نفسه. ولعلّ أهم هؤلاء هو رضا شرف الدين، وهو في آن: صاحب مصنع الأدوية الذي زاره الرئيس وتجوّل في ثناياه، ورئيس فريق النجم الرياضيّ الساحليّ الذي زار الرئيس ملعبه أيضاً، ونائب في البرلمان عن «نداء تونس»، إضافة إلى كونه من بين أهم ممولي حملة قائد السبسي الرئاسيّة (استفاد شرف الدين في مقابل المساهمة في تنظيم الزيارة بإظهار قربه من الرئيس، وهو ما يخدم صورته في الصراعات النخبويّة في المدينة).
وفي كلمته الختاميّة، قرّع الرئيس الإعلام الذي اعتبر أنّه لا يركز إلا على السلبيّات، فيما اعتبر أن ما يحصل على أرض الواقع عكس ذلك، فالمشاريع (الخاصّة) مزدهرة وكلّ شيء على ما يرام. لكن، وعلى عكس زمن بورقيبة، ولسوء حظّه، لا يمكن في هذا الزمن إخفاء ثقوب رداء الرئيس. فما إن انتهت الزيارة، حتى رفعت فاعليّات محليّة قضيّة بخصوص إخراج التلامذة من مدارسهم، وكشف الإعلام (أو بالأحرى الجزء المُنتقد منه) ما سعى الرسميّون إلى إخفائه.


صراعات داخل الدولة

بعد جدال طويل، صادق البرلمان في 13 من الشهر الماضي على قانون المصالحة الإداريّة، وهو قانون (اقترحه رئيس الجمهوريّة) تُوقَف بموجبه الإجراءات القضائيّة في حقّ إداريّين ومسؤولين سياسيّين تسبّبوا بأضرار للمصلحة العامة، ويعفو على المدانين منهم. ويقول نصّ القانون في فصله الثاني: «لا يخضع للمؤاخذة الجزائيّة الموظفون العموميّون وأشباههم... بالنسبة إلى الأفعال التي تمّ القيام بها والمتّصلة بمخالفة التراتيب أو الإضرار بالإدارة لتحقيق منفعة لا وجه لها للغير شريطة عدم الحصول على فائدة لا وجه لها لأنفسهم». مشكلة هذا القانون الذي يصفه معارضوه الكثر بأنّه قانون «تبييض الفساد»، في عدم تحديده لآلية للتأكد من عدم تحصيل المعفى عنهم على فائدة، إلى جانب تجنيبهم وزر الاعتذار من الشعب وحرمانه من معرفة تفاصيل ما حصل (إضافة إلى إسقاط حقّ المجموعة الوطنيّة في تعويض خسائرها).
لا تقف مشكلات قانون المصالحة الإداريّة عند هذا الحد، بل تتجاوزه إلى القفز على دور «هيئة الحقيقة والكرامة» التي أوكل لها الدستور مهمّة إجراء المصالحة. ولا يمثّل هذا التجاوز لدور هيئة دستوريّة حالة فريدة، بل يعكس موقف الرئيس من مجمل الهيئات الدستوريّة، إذ سبق له أن اعتبر في حوار صحافيّ حديث أنّها «تمارس صلاحيّات مطلقة» وهي بذلك «تهدد تماسك الدولة ووجودها».
وتُمثّل مسألة تأجيل الانتخابات البلديّة واجهة أخرى للصراع الدائر داخل مؤسسات الدولة وبينها، إذ أجّلت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات موعدها، للمرّة الثالثة (بعد فشل البرلمان في انتخاب رئيس لهذه الهيئة)، إلى شهر آذار/ مارس المقبل. وعلى الرغم من تنوّع الأسباب، إلا أنّ للتدخل السياسيّ في مسار الانتخابات ووضع عوائق أمام عمل الهيئة دوراً وازناً في التأجيل. إذ بعد استقالة رئيس الهيئة شفيق صرصار، بسبب تطعيمها بعضو اعتبره محل شبهات، رفض رئيس الجمهوريّة التوقيع على دعوة الناخبين قبل سد الشغور في الهيئة وانتخاب رئيس جديد لها. وبالتوازي مع ذلك، نشأ داخل البرلمان صراع بين «حركة النهضة» وطيف من المعارضة من جهة، و«نداء تونس» وطيف من الكتل الأخرى من جهة ثانية، محوره شخصيّة الرئيس الجديد للهيئة، ولم ينجح التوافق القائم بين الحزبين الأكبر في البرلمان في تقريب وجهات النظر إلى حد الساعة.
لكن لعلّ أكثر الصراعات الداخليّة أهميّة هي تلك المتعلقة بمعضلة الفساد. وفي هذا الصدد، يقول رئيس «الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد» شوقي الطبيب، في تصريح حديث، إن «مسؤولين وموظفين في أجهزة وإدارات الدولة يعارضون ويقاومون جهود مقاومة الفساد». ولا تتمثّل المسألة بالنسبة إلى الطبيب في حالات فرديّة أو استثناءات، إذ لم يستجب، حتى نهاية الشهر الماضي، سوى 15 «هيكلاً إدارياً» من جملة ألف «هيكل عموميّ» اتصلت به الهيئة للتفاعل مع جهودها، برغم أنه تفاعل يفرضه القانون.


منطق... لا يتبدّل

مجمل هذه الصورة، يقود نحو اعتبار أن تونس تعيش حالة سياسيّة غريبة، إذ يقود السلطة رئيس الجمهوريّة برغم صلاحيّاته المحدودة وفق دستور 2014، فيما يكتفي رئيس الحكومة صاحب الصلاحيّات الأكبر بدور أقرب إلى دور وزير أوّل (تطرح دوائر مقربة من السبسي منذ مدة مسألة تعديل الدستور للعودة إلى النظام الرئاسيّ). ويبدو أن الرئيس عاجز عن تغيير منطقه السياسيّ الذي اكتسبه من عمله الطويل في دولة بورقيبة وبن علي، إذ يسعى من جهة إلى تصوير تونس مُتخيّلة خالية من الاضطرابات، مرتكزاً في ذلك على نخبة ماليّة واقتصاديّة ما انفكت تزداد ثراء وأجهزة إعلاميّة موالية، فيما يسعى من جهة ثانية إلى أن يكون الحاكم الوحيد، بالقفز على أدوار بقية مؤسسات الدولة أو بدفعها لتكون حاضرة ــ غائبة، أي مجرد ديكور في مشهد انتقال ديموقراطيّ هشّ.




عودة دائمة... إلى بورقيبة

يفتخر رئيس الجمهوريّة الباجي قائد السبسي، بأنّ ملهمه وعرابه السياسيّ هو الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة. ويتقفى قائد السبسي في بناء صورته السياسيّة خطى الزعيم الراحل، فيتجنّب الظهور في الأماكن التي يمكن أن يُنتقد فيها أو يعامل بفتور، ولا يتوانى عن تقديم أكباش فداء في حال الفشل وفي نسب الفضل لنفسه في حال النجاح. ويضاف إلى ذلك الحرص على البهرجة والتدقيق في التفاصيل التنظيميّة لزياراته وإطلالاته الإعلاميّة.
من بين ذلك مثلاً، أن محيط السبسي أقام جزءاً مهماً من حملته الرئاسيّة بناءً على صورة الرئيس ذاتها، إذ وُجِّهت انتقادات إلى الرئيس السابق منصف المرزوقي، بسبب تخليه عن ربطة العنق مثلاً وعن بعض سلوكياته التي اعتبرت أنّها لا تتماشى مع منصب رئاسة الجمهوريّة، وفي المقابل صُوِّر السبسي كوريث لأناقة بورقيبة وخطاباته وكرئيس قادر على إعادة «هيبة الدولة».