حقّق رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني ما يصبو إليه. استفتاء الانفصال عن العراق سُيقام اليوم. أثبت «العناد الكردي» نجاعته، بالرغم من التحذيرات التي أطلقتها بغداد، وإعلان أنقرة وطهران، أكثر من مرّة، جاهزيتهما بـ«الذهاب إلى أبعد الحدود» في إطفاء أيّ نار انفصالية تشعلها أربيل، قد تمتد إلى الجنوب التركي والشمال الغربي الإيراني، إضافةً إلى الشمال الشرقي السوري، وصولاً إلى شواطئ المتوسط.
ما سمعه البرزاني، والقوى الكردية المختلفة، من الجهات الإقليمية «لم يكن بعيداً عن المواقف الدولية»، وفق مصدرٍ كردي رفيع، إذ يؤكّد في حديثه إلى «الأخبار» أن «الحراك الدبلوماسي، بقيادة واشنطن، حاول ثني رئيس الإقليم عن خطوته، بمخاطبته بلغةٍ لم تسمعها أربيل من قبل».
بات الاستفتاء أمراً واقعاً لا مفرّ منه. وبمعزلٍ عن نتائجه وكيفية ترجمتها، فإن أصل الاستفتاء نفسه مرتبطٌ بشكلٍ أو بآخر بتوقيت صعود تنظيم «داعش» وتوقيت القضاء عليه.
يشير تقديرٌ في بغداد، يستند إلى القراءة الميدانية لمجريات المعارك، إلى «أن القضاء على تنظيم داعش سيكون مطلع العام المقبل على أبعد تقدير». وفي قراءة معمّقة للدور المرسوم لـ«داعش» في العراق وسوريا، وخريطة «صعوده ونزوله»، تبرز اليد الأميركية في تحريك «حجارة» التنظيم، وتشغيلها وفق برنامج «العودة» إلى العراق، منذ انسحاب قواتها من هناك نهاية 2011.
يدرك محور المقاومة، من طهران إلى بيروت، مروراً ببغداد ودمشق، أن الأميركيين وجدوا في التنظيم فرصةً لتفعيل حضورهم، وباباً لفرض أجندة عملهم على العاصمة بغداد، إثر تكليف حيدر العبادي برئاسة الوزراء. فمكافحة الإرهاب والقضاء عليه يدخلان في الحسابات الأميركية في «التمدّد» في بلاد الرافدين، وخاصّة أن عملية إنهاء وجود التنظيم قُدّرت لسنوات عديدة.
الحسابات الإيرانية كانت مغايرة. بغداد وبتعاونها مع طهران ــ بالرغم من الملاحظات المتبادلة بين العبادي وقائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري الإيراني» الجنرال قاسم سليماني، تمكّنت من تحقيق إنجاز «المعجزة» بإنهاء «داعش» في أربعة أعوام تقريباً.
المشهد الميداني ــ السياسي المتشابك في العراق، يحوم حول الرؤية الأميركية هناك، وتطوّرها منذ 2014 حتى اليوم. يصف عارفو المنهجية الأميركية في العراق، بـ«الاستراتيجية، والطويلة المدى، التي تتداخل فيها العوامل السياسية والميدانية بالاقتصادية والاجتماعية... وغيرها».

ثمّة اتهامات للبرزاني، وفريقه الخاص، في تسهيل «تمدّد داعش» في محافظة نينوى



وإن صحّ إطلاق «الخطّة أ» في سياق «عودة الأميركيين إلى العراق»، بالاستفادة من «داعش»، فإن فشلها يقضي على واشنطن تحضير «الخطّة ب» لضمان ما تحقّق على مدى السنوات الأربع، لجهة الوجود العسكري الضخم، والتأكيدات المستمرة على أن «جنودنا باقون في مرحلة ما بعد داعش»، بمسميات وعناوين عدّة.
في التحقيقات الخاصّة بسقوط مدينة الموصل، والتي اطلعت عليها «الأخبار»، إلى جانب استماعها إلى شهادات قادة «الصفّ الأوّل»، ثمّة اتهامات واضحة تشير إلى دور محوري لعبه البرزاني، وفريقه الخاص، في تسهيل «تمدّد» المسلحين في شمال البلاد، وتحديداً في محافظة نينوى. أحد أسباب «السقوط»، وفق الوثائق، هو «علاقة الحكومة الاتحادية (المتشنجة) بالإقليم». تؤكّد المعلومات أن «أوامر أربيل بانسحاب مقاتلي البشمركة، سهّلت سيطرة المسلحين على مناطق شاسعة في نينوى»، عدا عن تهاون البشمركة في إمرار الدعم المادي والتغاضي عن عبور المسلحين إلى المناطق التي كانت تحاصرها القوات العراقية ــ بمختلف صنوفها، إبّان عمليات قادمون يا نينوى وقادمون يا تلعفر».
تواطؤ أربيل بتسليم العديد من المدن، بشهادة قادةٍ أكراد، قابله «داعش» بالهجوم على المناطق الخاضعة لسلطة البرزاني، الذي طلب من سليماني تقديم المساعدات اللازمة لاستعادة مناطق سنجار وحمايتها، غربي الموصل.
انقلاب «داعش» على أربيل، بالظن أنها آمنةٌ من شرّه، دفع بالبرزاني ــ ومن خلفه عرّابوه ــ إلى التفكير جديّاً في مسارين؛ الأوّل في حماية «المستعمرة» الأميركية في شمال العراق، والثاني في توسعة حدودها لأهدافٍ لاحقة، وفق مصدر أمني عراقي.

«الإقليم» أكبر من حدوده

اشترط مسعود البرزاني على حيدر العبادي بقاء قواته في المناطق التي تدخلها، والواقعة خارج حدود «الإقليم»، للمساهمة في الحرب ضد «داعش». وافق العبادي على الطرح الكردي، بوصفه «أمراً واقعاً» تصعب فيه المناورة لضرورات الميدان. «تمدّدت البشمركة»، ووسّع البرزاني حدود إقليمه، باسطاً بذلك سيطرته على مناطق تبعد كيلومتراتٍ عدّة عن مدينة الموصل، ليعزّز بذلك حضور قواته في المناطق المتنازع عليها (وفق المادة 140 من الدستور العراقي)، رافضاً الخروج منها، أو تسليمها إلى القوات العراقية بعد تحريرها.
اجتياز الحدود سمح للبرزاني بالوجود في مناطق يسعى إلى ضمها لإدارة «الإقليم». فرض البرزاني بتوسّعه الجغرافي، وبالتنسيق مع الأميركي، إيجاد مخرجٍ يبرّر له القيام بأي خطوةٍ قد يقوم بها لاحقاً، أو أي ردّة فعل أو مواجهةٍ محتملة مع بغداد؛ فكان الإعلان عن إجراء الاستفتاء أثناء عمليات استعادة الموصل.
هذه الخطوة، التي جاءت بعلم الأميركيين، لم تأخذها بغداد على محمل الجد، لانشغالها في العمليات العسكرية أولاً، واعتبار الحكومة الاتحادية أن البرزاني يريد أن يعلّي سقف مطالبه/ مفاوضاته معها في مرحلة «ما بعد داعش»، ثانياً، وخاصّةً أن الرجل بات في مازقٍ داخلي، وبحاجة ماسّة إلى خطاب يتمكّن فيه من لملمة البيت الكردي الداخلي، يعيد من خلاله تنظيمهم في نسقٍ واحد. فهو يرى في نفسه «مخلّصاً للأكراد من الظلم العربي» طوال العقود الماضية.
جاء إعلان الاستفتاء هنا، كسياقٍ متمّمٍ لما خاضه البرزاني في السنوات الأربع الماضية، منذ إعلان زعيم تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي خلافته، و«كفاحه» لنظام صدّام حسين تارةً، والإذعان له مقابل ضرب الأخير لغريمه زعيم «حزب الاتحاد الوطني الكردستاني» جلال الطالباني، تارةً أخرى. فرئيس «الإقليم» يتحيّن الفرصة منذ الاحتلال الأميركي عام 2003، لإعلان دولته، إلا أن الصد الإقليمي كان المانع لأي خطوةٍ قد يخطوها الرجل في إطار تحقيق «الحلم».

الفتنة الأميركية تضرب بغداد

يؤكّد مصدر أمني عراقي رفيع أن خطوة البرزاني ما كانت لتتم لولا «غطاء دولي خفيٍّ» يحظى به. في حديثها إلى «الأخبار»، ومن داخل «غرفة عملياتٍ» أُنشئت لمواجهة الاستفتاء وتداعياته، يستبعد المصدر «الرفض الأميركي القاطع لإجراء الاستفتاء». يتساءل «كيف لمسعود أن يواجه كل العالم؟»، واصفاً الرجل بأنه يمثّل «تحدّياً جديداً لبغداد بعد داعش».
وصف البرزاني بـ«التحدّي»، يشي بشكلٍ واضح إلى مواجهة مرتقبة مسلّحة بين بغداد وأربيل، باختلاف حجمها وضيق رقعتها أو اتساعها، وتعدّد لاعبيها. فالسيناريوات مفتوحة على مصراعيها، تصل بعضها، وفق مصادر متعدّدة، إلى «عدم اكتفاء بغداد بفرض سيطرتها الكاملة على المناطق المتنازع عليها، بل الدخول إلى الإقليم واجتياز حدوده».
الدعم الأميركي «ملبوسٌ» هنا. يدعم الأميركيون العبادي في أي خيارٍ قد يتخذه حفاظاً على «وحدة وسيادة العراق»، وإن وصل الأمر الى حدّ المواجهة العسكرية، من جهة، ويقدّمون للبرزاني وفريقه دعماً «غير مباشرٍ» لإجراء الاستفتاء، ونصائح حول كيفية ترجمته واحتواء «غضب بغداد»، إلى جانب طرح نظرياتٍ في الجغرافيا ــ السياسية تؤكّد أن «الفرصة الأنسب لإجراء استفتاء يمهّد لانفصالٍ لاحقٍ هي الآن».
المصدر الأمني، محيط بدور واشنطن، ويقرّ بعجز الحكومة في مواجهة سياساتها إزاء أكبر منعطف يمرّ به «العراق ما بعد 2003». فالولايات المتحدة في خططها، تشرّع الباب أمام فتنٍ عدّة تصيب بلاد الرافدين، قوامها الانتماء القومي، وأحقيّة «الأقليات» في إنشاء كيانٍ يحمي وجودهم من الأخطار المحدقة. هذا التخبّط في الإدارة العراقية إزاء «التسليم» للدعم الأميركي، وغضّ النظر عن المساعي الأميركية لإعادة العراق إلى الحضن «المخلّص من صدام»، واتهام المحذرين لخطورة مشروع البرزاني بـ«التهويل بشق الصف الوطني»، بدأ منذ أيام بقراءة نقدية لسياسية الحكومة الاتحادية إزاء «الإقليم»، الذي يصرُّ في استفتائه على مواجهة قد يدفع ثمنها البرزاني نفسه، ويكون الأكراد فيها أكبر الخاسرين.

هل تعود بغداد «إلى حضن طهران»؟

قد تكون نتيجة الاستفتاء غداً «لا»، وقد تكون «نعم»، إلا أن نتيجته في الأفق دولةٌ كردية. تصوّر المشهد في بغداد وأنقرة وطهران لا يمكن تحمّله، وهو ما يفسّر الخطوات المتخذة من قبل العواصم الثلاث، في سبيل «تسقيط» أي دولة قبل ولادتها. حضور فصائل المقاومة العراقية، إلى جانب «الحشد الشعبي»، والقوات الأمنية العراقية في محيط خطوط التماس مع «البشمركة» رسالةٌ واضحةٌ إلى أربيل مفادها «أننا جاهزون».
أما إغلاق الحدود المشتركة مع «الإقليم» من قبل الدول الثلاث، فهو إعلان حصارٍ ليس على «الدولة»، بل على البرزاني، ومحاولة إقليمية للقضاء على «مرتكزات إقليم ظنّ البرزاني أنها تصلح لأن تكون دولة»، وفق مصدر حكومي، إضافةً إلى أنها مسعى إقليمي لخلق معارضة داخلية تكون مزعجة للبرزاني في المرحلة المقبلة، وخاصّة أن العلاقة مع بغداد «لن تكون كسابق عهدها»، بحيث اتسمت ــ من الآن فصاعداً ــ بـ«كسر العظم».
التنسيق الثلاثي بين بغداد وأنقرة وطهران، في إطار مواجهة «المدّ» الكردي، سيفتح باباً لتفعيل التواصل بينهم على أكثر من صعيد، يبدأ من المشكلة المستجدة، لينتقل إلى القضاء على الإرهاب وتسريع وتيرته في العراق وسوريا، وصولاً إلى تعزيز التبادل التجاري، وتمسّك طهران أكثر بالتحالف مع قيادة «إخوانية» (الإخوان المسلمون) تواجه من خلالها ــ في الصراع القائم في المنطقة، لمواجهة التحالف الأميركي ــ السعودي.
«التهديد الكردي»، الذي دعمته واشنطن، قد يتحوّل إلى فرصة للمُهدَّدين، وتهديدٍ للمُهدِّدين، فأي تحالف إيراني ــ تركي، لضرب البرزاني ومشروعه، هو ضربٌ لأحد المشاريع الأميركية في المنطقة، وهو أمرٌ يريده العراقيون بمختلف توجهاتهم، وقد يمهّد الطريق لعودة العراق إلى الصف الإيراني، ليُضرب بذلك المشروع الأميركي ــ السعودي، والذي صرف إلى الآن مئات الملايين من الدولارات في هذا السياق. الفرقاء العراقيون، وإن اختلفوا مع إيران، قد يعودون إلى التسليم في أحقيتها بعد تخليصها لهم من شبحين «داعش» و«الانفصال». وإذا صحّت هذه النظرية، التي يروّجها عددٌ من العارفين بخبايا السياسة العراقية، فإن البحث عن «الخطة ج»، يجب أن يبدأ، وإذا خابت، فإن مواجهة سياسية ــ ميدانية قاسية على بغداد خوضها، لن يكون وقعها أقل من «استعادة الموصل».