منذ وصول حيدر العبادي، إلى رئاسة الوزراء العراقية، في صيف عام 2014 المشتعل، راهن كثرٌ على أنّ شخصيته التوافقية وأسلوبه المرن في الإدارة والسياسة، سوف يساهمان في «إنجاح الحروب ضد تنظيم داعش»، وسوف يُعيدان إلى الدولة بعضاً من توازنها بعد اضطرابات عهد نوري المالكي (الموصوف من قبل معارضيه بأنه صدّام صغير).
كان هذا الرهان ذا وجهين، إذ إنّه يمثّل تقاطعاً بين المصلحة العراقية من جهة، والمصلحة الأميركية ــ الخليجية من جهة أخرى. طيفٌ واسعٌ من العراقيين يعتقد بأنّ «داعش يمثّل في أحد وجوهه، رد فعل على تهميش العرب السنة في العراق، وبالتالي إنّ محاربته والانتصار عليه، يوجبان أولاً معالجة الأسباب، ما يحتاج إلى شخصية مرنة وتوافقية». توازياً، كانت الإدارة الأميركية السابقة وعواصم خليجية، تتخذ من هذه الفرضية منطلقاً يتيح العودة إلى العراق بعد الخروج العسكري الأميركي منه عام 2011، بما يسمح بـ«مواجهة النفوذ الإيراني».
ثلاثة أعوام مرّت (آب 2014 ــ آب 2017)، تحوّل العبادي في غضونها من شخصية متواضعة التأثير والحضور، إلى واحد من الأرقام الصعبة في المعادلة السياسية العراقية، وإلى مهندس لسياسة خارجية جديدة لبغداد ترتكز على «الابتعاد عن سياسات المحاور»، ما قرّبه أخيراً من الرياض.

خط طهران «المتوتر»


ليس حيدر العبادي حديث العهد في السياسة، فهو انتمى مذ كان شاباً إلى صفوف «حزب الدعوة»، وارتقى في ظل هياكله حتى تولى رئاسة مكتبه السياسي، ودخل في النظام السياسي للعراق «ما بعد الغزو» منذ عام 2003. وبرغم أنه ابن عائلة معروفة في بغداد، فإنّ تبوؤ المسؤولية في «صيف 2014»، لم يكن مهمة سهلة، خاصة أنّ هاجسين لاحقاه منذ يومه الأول في المنصب الجديد: طهران، والمالكي.
يُقال إنّه في «لحظات الكواليس الأخيرة» في شهر آب 2014، تمّ الاتفاق على العبادي ليخلف المالكي، بعدما كان اسم وزير الخارجية الحالي إبراهيم الجعفري، متقدّماً على بقية المرشحين الذين كان من بينهم، الرجل القوي في بغداد، طارق نجم. ويُقال أيضاً إنّ «هناك من أقنع العبادي بأنّ طهران لا ترغب في وصوله»، وهنا نشأت أولى هواجسه.
بعد تولي المسؤولية، تواصلت خشية رئيس الوزراء الجديد من «الانقلاب الإيراني» عليه، حتى وصلته رسالة تقول: «مستحيل أن يقبل الإيرانيون بإسقاط رئيس وزراء العراق... هذا خط أحمر». خففت تلك الرسالة من التوتر، إلا أنّها لم تلغِه تماماً.
أبقى العبادي على علاقات جيّدة بطهران، يفرضها الأمر الواقع. لكن تبيّن لاحقاً أنّ له نظرة خاصة إلى الدور الإيراني في العراق، تقوم على إدراكه بأنّ «ما بعد 2014، لن يكون كما قبله»، بمعنى أنّ حكم العراق سوف يقوم على صيغة جديدة، لها بعدٌ داخليٌ، وآخر خارجي ــ إقليمي.

تقاطُع البعدين

في البعد الداخلي، كان لا بدّ من تخفيف مركزيّة بغداد في الحكم، وهذا ما نجح فيه رئيس الوزراء الجديد على امتداد أشهر حكمه الأولى، ولمّا يزل مواصلاً على المنهج نفسه. إلا أنّ المعضلة اليوم، أنّ استعادة الموصل ثم تلعفر، وقبلهما معظم الأراضي العراقية، وفقاً لأجندات «تحترم خصوصيات تلك المناطق» (كما يقول مسؤولون عراقيون)، واقعٌ لم ينهِ أزمة الحكم في العراق.
يُظهر ذلك بصورة واضحة أنّ الأزمة لا تقتصر على «تحرير الأراضي»، وإنما كيفية حكمها ضمن صيغة عراقية شاملة. وهذا ما يقود إلى اعتبار أنّ النظام السياسي للعراق القائم على دستور 2006، أصبح مشلولاً ويحتاج إلى تعديلات، أو بالأحرى أنّ حكم العراق «بعد داعش» لن يستقيم من دون إدخال تعديلات جوهرية على آليات الحكم.
ويعتبر الباحث العراقي حارث حسن، أنّه «قطعاً هناك حاجة لإجراء تغييرات دستورية ومؤسساتية لإصلاح النظام العراقي، خاصة في ما يتعلق بالعلاقة بين إقليم كردستان وبغداد، والنظام القضائي، والنظم الانتخابية، وإدارة الموارد، والمؤسسات المستقلة»، إلا أنه يستدرك بالقول إنّ «خلق الإجماع الضروري من أجل إحداث مثل هذه التعديلات، فضلاً عن تحديد طبيعتها، لا يبدو متاحاً في ظل الخريطة السياسية القائمة». ويعرب حارث حسن عن الشك «في أن الانتخابات المقبلة سوف تفرز خريطة تسمح بهكذا تغيير، ولهذا السبب فإنّ سياسات الأمر الواقع هي التي تفرض نفسها في الغالب، وتزداد الفجوة بين النصوص الدستورية وبين ما يحدث في الواقع العملي، وهو أمر سيستمر في إضعاف شرعية الترتيبات القائمة وقدرتها على الاستمرار على المدى البعيد».

ناكف وجوهاً إيرانية، إلا أنه لم يتجاوز سقوف طهران السياسية


من جهة أخرى، وبما يخص البعد الخارجي ــ الإقليمي، حيث المطلوب كسر شوكة النفوذ الإيراني وإعادة ترتيب أوراق النفوذ الإقليمي في بلاد الرافدين، فقد ساهم حيدر العبادي في ذلك، إن لناحية أنه ساعد مثلاً في تكريس النظرة إلى بعض فصائل «الحشد الشعبي» الوازنة، على أنّها «أداة لطهران»، أو لناحية أنّه «أعاد إدخال السعودية إلى البلاد». (يضاف إلى هذين الأمرين مسألة مهمة، وهي أنّ تعاطي العبادي مع دمشق، لا يتجاوز أياً من السقوف الأميركية).
وبرغم أنّ عراقيين يرون في «العبادي أنه رجل أميركا في العراق وقد بدأ يُخرج البلاد من العباءة الإيرانية إلى الشماغ الخليجي المتمثل بالسعودية»، فإنّ آخرين مطلعين يبدون أكثر حذراً ويشيرون إلى أنّ «الرجل ناكف وجوهاً إيرانية في العراق، إلا أنه لم يتجاوز أيضاً في كلِّ ما فعل سقوف طهران السياسية، فهو أجاد اللعب على متناقضات السياسة الخارجية لإيران، التي يتقاسمها حالياً فريق وزارة الخارجية ــ الرئاسة وفريق الحرس الثوري، ما خلق له هامشاً مريحاً من التحرك».

حصيلة ناجحة؟

في حوار أجرته (في شهر تموز الماضي) صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية مع الباحث العراقي هشام داود، يعتبر الأخير في ختام استعراض طويل للشأن العراقي، أنّ حيدر العبادي لا يزال في طور البحث عن «معادلة سحرية على الطريقة العراقية... (وهي مهمة) ليست سهلة، وفي الأغلب لن تنشأ في الغد».
لكن العبادي يظهر حتى اليوم مديراً للأزمات، في شقيها الداخلي والخارجي، أكثر من كونه رئيساً للوزراء. وهذا ما قد يجعله في الداخل العراقي أحد لاعبي «صراع العروش» الدائر في بغداد، ويجعله على الصعيد الإقليمي مقبولاً، خاصة أنّ مواقفه تتسم غالباً برماديتها. (قبل يومين، نُقِل في تقرير صحافي عن السفير الإيراني لدى بغداد ايرج مسجدي، أنه اختتم مداخلاته في جلسة للنقاش، بالإشارة إلى ما اعتبره «جوهر المشكلة في العراق»، وتساءل: «هل في العراق شخص أو مجلس بيده القرار الفصل في كل الأمور؟»).
قد تمثّل «إدارة الأزمات» و«رمادية المواقف» نجاحاً، وربما هي أسهل السبل نحو ولاية ثانية على رأس حكومة العراق (في حال جرت أصلاً الانتخابات النيابية المرتقبة العام المقبل)، إلا أنّ هذا الأمر تقابله معادلة تفيد بأنّ السياسة التي قد لا تسأل عن «أثمان المسارات الناجحة»، تفاجئ أحياناً في نهاية المطاف، وتُظهر أنّ هناك نجاحات بُنيت على حسابات كانت خاطئة في الأساس.