عشية فعالية أمس، قال رئيس حزب «المؤتمر الشعبي العام»، والرئيس السابق علي عبد الله صالح، إننا «نتطلع إلى أن تُحترم الجماهير المحتشدة في السبعين من أمهات وزوجات وآباء وإخوان الشهداء والجرحى والمعاقين... نحث على استعداد للحوار الشجاع في إطار لا ضرر ولا ضِرار مع دول العدوان ممثلة بالسعودية التي تقود التحالف (تحالف العدوان)... نحن على استعداد للحوار والتفاهم مع الأشقاء في السعودية مثلما تفاهمنا معهم عام 1970».
إذاً، يبدو أن صالح يحرص على التحالف مع الأطراف الداخلية والخارجية الأقوى، ويستمد بقاءه من قدرته على نسج تلك التحالفات، حتى وصف بأنه الأدهى بين الزعماء العرب في العصر الحديث، وقد اشتهر عنه القول: «إن حكم اليمن يشبه الرقص على رؤوس الثعابين»، وهو الرئيس الوحيد الذي تنحى في ثورات «الربيع العربي» عن السلطة وحفظ له مكاناً رئيسياً بعد التنحي.
تحالف «صالح» التاريخي مع السعودية أمده بالبقاء والقوة ثلاثين عاماً حتى انفكاكه عام 2014، يوم طلب منه السفير السعودي إقامة تحالف مع حزب «الإصلاح» الإخواني، والرئيس المستقيل عبد ربه منصور هادي، لمواجهة حركة «أنصار الله». ولما رفض الطلب، ما كان من الحليف السعودي إلا أن أخرجه من فلكه ومعونته، بالإضافة إلى وقف دعمه السياسي ونزع حصانته التي أعطيت له بفضل «المبادرة الخليجية».
لم يستمر فراق صالح طويلاً بعدما أخذ الثأر من خصمَيه («الإصلاح» وهادي) برميهما خارجاً، لكنه اليوم يعيد الكرة باتجاه الرياض، فيرمقها ببصره ويتطلع إلى اليوم الذي تعيد فيه النظر وتعاود التحالف معه، وتعيد الحياة إلى ما انقطع بفعل تسارع الأحداث وتبدل التحالفات. لكن الرياض، التي أصدرت حكمها عليه بالخيانة ونكران الجميل، أوصدت الأبواب في وجهه، وأغلقت المنافذ المتمثلة بالواسطة الإماراتية في بداية العدوان. وما أمل وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي أنور قرقاش في تغريدته على «تويتر»، بأن يكون خطاب صالح الأخير (الذي أظهر فيه التمايز)، قد يمثل فرصة لكسر الجمود السياسي الذي كرسه (السيد عبد الملك) الحوثي، إلا دعوة موجهة إلى السعودية لعلها تكسر طوق الحقد على صالح، وتوافق على المصلحة الخليجية باختراق الشمال اليمني باحتواء صالح من جديد.
ومن المفيد التذكير أنه إثر سيطرة «أنصار الله» على العاصمة صنعاء خفت صوت صالح، ومردُّ سكوته في البداية إلى شعوره بالخيبة والخيانة من هادي الذي عيّنه بنفسه، ليحل مكانه وفق «المبادرة الخليجية» إمراراً لما سمي «الربيع العربي» الذي قاده «الإخوان المسلمون» وانضمت إليه مكونات أخرى في ما بعد. فعمد هادي، بعد توليه السلطة بقليل، إلى إقصاء كل من يمت بصلة إلى صالح، بما شمل إعادة تشكيل الجيش وإقصاء المحسوبين عليه، وضمن ذلك عزل ابنه أحمد من قيادة «الحرس الجمهوري»، وكذلك عزل بقية أبنائه وأبناء أخيه وأقربائه على خلاف «المبادرة الخليجية» التي حفظت له دوراً رئيسياً في إدارة البلد.
الجدير بالذكر أن صالح يرى نفسه ولي نعمة الرئيس المستقيل، هادي، فهو الذي أتى به من الجيش بعدما كان ضابطاً مغموراً وعيّنه نائباً للرئيس مدة 18 عاماً. لكن، مع بداية العدوان السعودي على اليمن ظهر صالح متماهياً مع «أنصار الله» إلى درجة يصعب التمييز فيها بينهما. وشكّلا معاً جبهة داخلية في مواجهة المكونات التي أيدت العدوان، كما توافقا على عدد من المفاصل والقضايا الرئيسية في البلد (الأخبار العدد ٣٢٥٧).
وطوال الشراكة بين الحركة و«المؤتمر»، بقيت حالة الشكوك مستمرة بين الجانبين، ولعلها كانت أكثر وضوحاً من جانب «أنصار الله». ورغم النصائح المحلية وغير المحلية التي كانت توجه إليهم بضرورة التكامل وتجنب التطلع إلى الصغائر، فإن تاريخ صالح المتقلب في التحالفات دائماً كان مصدر الشكوك الرئيسية، وخاصة أنه أظهر تمايزاً تدريجياً وأحياناً ازدواجية في العديد من الملفات، نذكر منها:
ــ الموقف من مبادرة مبعوث الأمم المتحدة إسماعيل ولد الشيخ، بشأن ميناء الحديدة، التي رفضها صالح لمسّها السيادة الوطنية، معبّراً عن رفضه بوصفها «كبعد السماء عن الأرض». لكن المفاجأة أن البرلمان الذي يشكّل حزبه أكثرية مطلقة فيه أطلق مبادرة في اليوم التالي ومررها بصورة ملتبسة، من دون الرجوع إلى «أنصار الله». وتنص المبادرة على تسلّم الأمم المتحدة المعابر الحدودية، بما فيها الحديدة.
ــ يعمد حزب «المؤتمر» طوال العدوان إلى ترتيب وضعه الداخلي والتواصل مع الفئات المجتمعية والقبلية على نحو فئوي وبما يخدم التمايز عما يفترض أنه شريك: «أنصار الله»، في وقت تصرف فيه الأخيرة جهوداً كبيرة في خدمة جبهات القتال، من دون أي مشاركة تذكر من قبل «المؤتمر» فيها، علماً بأن صالح يقدم نفسه إلى العالم على أنه شريك فعلي في صد العدوان.
ــ بقيت حالات الانشقاق والانفصال عن «المؤتمر» من شخصيات مؤتمرية ونواب موضع لغط ولبس كبيرين، سواء الموجودين في الرياض أو صنعاء، من دون أن تصدر مواقف حازمة من صالح بما يؤكد تبعية تلك الشخصيات والنواب إلى غيره أو وضعهم في خانة جبهة العدوان، ما فهم على أن قيادة «المؤتمر» تدير عملية توزيع أدوار بين التحالف السعودي وصنعاء.
يشار إلى أنه خلال تحالف صالح مع السعودية، الذي امتد لقرابة ثلاثين عاماً، لم تشب العلاقات بين الطرفين شائبة. وفي ظل التحالف بينهما، استطاعت الرياض انتزاع ورقة مهمة في تاريخ العلاقة بين البلدين، وهي التوقيع على اتفاقية الحدود التي سميت «معاهدة جدة» في 12 حزيران 2000، بعدما شكلت قضية الحدود قلقاً للجانب السعودي دام عقوداً طويلة. وكانت العهود السابقة، التي تعاقبت على اليمن تتهرب وتماطل في النظر في «معاهدة الطائف» لما تتضمنه من إجحاف وظلم بسبب تنازلها عن أجزاء واسعة من المحافظات الشمالية (جيزان وعسير ونجران)، التي كانت قد سُلخت في حرب 1934 عن اليمن، ووقّع الأخير مرغماً على انتزاع تلك المحافظات تحت وقع الهزيمة بقيادة الإمام يحيى حميد الدين.
وكان الافتراق الوحيد بين اليمن والسعودية في عهد الرئيس السابق طوال تلك السنوات هو تأييده الغزو العراقي للكويت عام 1990. كما يُذكر أن اللجنة السعودية الخاصة بإدارة الملف اليمني، برئاسة سلطان بن عبد العزيز، كانت تدير الشؤون المحلية في البلاد، وتوزع عشرات الآلاف من الرواتب شهرياً على كبار المسؤولين وموظفي الدولة والضباط وزعماء القبائل والأحزاب، بالإضافة إلى تخصيص موازنات بملايين الدولارات شهرياً تُصرف على دعامتي الحكم في صنعاء: رئيس الجمهورية صالح، ورئيس مجلس النواب عبد الله حسين الأحمر، وذلك لتمكينهما من مسك المفاصل الرئيسية في الدولة.