كان مساء 23 أيار الماضي طويلاً، بلا شك، على القطريين. لم ينم أصحاب القرار في قطر تلك الليلة. ظلت القيادة في الدوحة، ومعها جيش من المستشارين، في حال من التأهب والترقب والمتابعة الحثيثة للهجوم الأعنف الذي تتلقاه البلاد، على نحو هو الأول من نوعه في تاريخها.
إحتاج الأمر لساعات حتى يتضح للساسة في قطر أن إمارتهم الصغيرة أمام حالة أزمة حقيقية واستثنائية، تتطلب مواجهتها برنامجاً استثنائياً وعملاً دؤوباً، تستنفر فيه القطاعات كافة، وتجيش له الطاقات في الداخل ولدى الأصدقاء والحلفاء في الخارج.
لن ينسى القطريون ليل الثلاثاء ــــ الأربعاء الذي سيصبح محطة فاصلة، ونقطة تحول في تاريخ الجزيرة الخليجية. على أن الفصل الأهم لهذه المرحلة، والجدير بتقييم تجربته من قبل أصدقاء الدوحة وخصومها على حد سواء، سيكون الخطة التي أخذت بها قطر لإدارة الأزمة ومواجهتها. إدارة يمكن القول بأنها تتصف، حتى الآن، بكفاءة ونجاح واضحي المعالم.
هي المرة الأولى التي يختبر فيها القطريون إدارة الأزمة من موقع المدافع، لا من طرف المصدر للأزمات، خصوصاً بعد الدور المحوري للدوحة في أزمات «الربيع العربي» التي عصفت ببلدان المنطقة في السنوات الست الماضية. تتردد الكثير من الأسماء، في الإعلام وفي الكواليس السياسية، حول الخلية التي تدير الأزمة، والمستشارين المؤثرين الذين يستعين بهم أمير قطر الشاب تميم بن حمد آل ثاني. لكن الواضح أن من اعتمدت عليهم قطر في «تصدير» الأزمات، أو إدارة الأزمات من جانب «المهاجم»، جرت الاستعانة بهم لإدارة الأزمة من موقع «المدافع». يضاف إلى الدور الاستشاري لـ«النخب» العربية الذين استقطبتهم الدوحة في الأعوام الأخيرة الماضية، دور الامبراطورية الإعلامية الضخمة التي بنتها الإمارة الغازيّة على مدى عقدين، وهي الإمبراطورية الأكثر كفاءة والأشد تأثيراً بين الأذرع الإعلامية، خليجياً وعربياً. الأمر الثالث، الذي أسهم في نجاح الإدارة القطرية للأزمة، هو تحرك اللوبي القطري والأذرع الدبلوماسية للتأثير في أروقة دوائر القرار الغربية، والأميركية منها تحديداً. رابعاً، الاستثمار في الصداقات الإقليمية والدولية، والاستفادة من دعم الأصدقاء في كسر العزلة الاقتصادية والمقاطعة السياسية والدبلوماسية، وتأمين الحماية والردع أمام أي احتمالات تصعيد.
في المقارنة بين قطر وجارتيها على معسكر المقاطعين للدوحة، الإمارات والسعودية، لا يمكن الحديث عن فوارق كبيرة في الإمكانات والموارد، ما عدا الجانب الأيديولوجي الذي تستثمر فيه الدوحة، أي التقارب مع التيارات الإسلامية لا سيما الإخوان المسلمين. مع ذلك، حققت قطر تفوقاً على أبو ظبي والرياض في إدارة النزاع، برغم أن العوامل الأربعة المشار إليها (يمكن إضافة عامل خامس هو ضعف أدوات المواجهة في معسكر المقاطعة)، التي اعتمدت عليها، تستند في غالبيتها إلى فائض القوة المالية، وهو ما تتشاركه قطر مع كل من السعودية والإمارات.

الأيام الأولى

بالعودة إلى الأيام الأولى لاندلاع الأزمة الخليجية، يلاحظ أن القطريين لازموا حينها سياستي «الإنكار» و«الاحتواء»، عبر نفي خطاب أمير قطر المزعوم، مع جرعة من الرد المباشر على دولة الإمارات، من دون تناول السعودية سياسياً أو إعلامياً، وبالتوازي عملية استقطاب للمواطنين والمقيمين لتحصين الساحة الداخلية من أي اختراق. كان همّ القطريين، في مرحلة ما قبل سحب السفراء والمقاطعة الشاملة، تثبيت فكرة أن الخطاب المنسوب للأمير مفبرك ومزور، وأن الإمارات، المنافس والخصم الأساس في اللعبة، هي التي تقف وراء هجمة منظمة ومبيتة.

في الأيام الأولى لاندلاع الأزمة لازم القطريون سياستي «الإنكار» و«الاحتواء»
يلاحظ أيضاً أن حالاً من التخبط شهدتها الدوحة في تلك المرحلة، وهو ما ظهر مع الإعلان عن خطاب سيوجهه أمير قطر إلى الشعب، ومن ثم الإعلان عن تأجيل الخطاب بحجة ضغوط الوساطة الكويتية، واستبداله بتصريحات وزير الخارجية لقناة «الجزيرة»، ما يفسر أن خطة مواجهة الأزمة كانت لا تزال في طور الإعداد، وأن القراءات الداخلية لطبيعة الأزمة لم تكن موحدة بعد. أهمية ذلك أنه يكشف «مفاجأة» قطر بقرار سعودي مباشر بالذهاب إلى مواجهة شاملة علنية. الأكيد، وفق المعلومات، أن المحور الإخواني كان يتحسس مرحلة غير مطمئنة لكافة التيارات الإسلامية في ظل الإدارة الجديدة للبيت الأبيض. لكن ما لم تكن الدوحة مستعدة له هو انخراط سعودي بهذا الحجم في هجوم مباشر عليها. لا شيء كان يحمل عنصر المفاجأة في الدور الإماراتي ضد الدوحة. فثمة «حرب» كانت تخاض بالفعل بين الجانبين، على مدى سنوات، ليس في الساحتين الليبية والمصرية فقط، بل تمتد إلى أروقة القرار في واشنطن حيث التنافس على أشده بين اللوبيين الإماراتي والقطري. حتى إعلامياً، لم يكن الطرفان يوفران فرصة لشن الهجمات المتبادلة، وإن بقيت محكومة بسقف يضبط الخلاف وينظمه. فمثلاً، كانت قناة «الجزيرة» تتجنب التطرق للدور الإماراتي، فيما نشطت وسائل إعلام مدعومة قطرياً، قبل الأزمة الخليجية، في فتح ملفات ضد أبو ظبي، كتسليط الضوء على عمل سفيرها في واشنطن يوسف العتيبة، أو العلاقة مع إسرائيل، والدور في اليمن، ونشاط شركة موانئ دبي العالمية في القرن الأفريقي، وغيرها من الملفات.
إلا أن الأمر كان مختلفاً في ما يخص السعودية، حيث شعرت قطر بإمكانية تحسن العلاقة معها ومع المحور الإخواني بشكل عام، في فترة وجود محمد بن نايف في ولاية العهد (الذي يؤمن بالتقارب مع تركيا وقطر والإخوان)، وهي وإن دخلت على خط تنافس الأخير مع ابن عمه محمد بن سلمان، إلا أنها لم تتوقع حسماً سريعاً لملف الصراع على العرش، أو ذهاب بن سلمان بعيداً خلف ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد. بأي حال، فإن الواضح أن القطريين فشلوا في التنبؤ ببروز الأزمة بهذا الشكل، وإن استفادوا من الأزمة الخليجية السابقة، والحرب الباردة مع الإمارات.

التدرج في المواجهة

سريعاً تبلورت رؤية في الدوحة لكيفية المواجهة. قامت الخطة القطرية على التدرج في المواجهة على مراحل، وعدم الإكتفاء بالأدوات التقليدية لإدارة الأزمات. ربما يصح القول إن القطريين عمدوا إلى الأخذ باستراتيجية «تصعيد الأزمة» كإحدى الوسائل لمواجهة الأزمات الضاغطة، حين وصل الأمر حد تنفيذ هجمات مضادة، في الإعلام والدبلوماسية ورفع الدعاوى القضائية في المنظمات الدولية ضد المقاطعين. بدأ الأمر بانقلاب في الخطاب حول السعودية واليمن، شكلت رأس حربته قناة «الجزيرة».
وشهدت الأسابيع الأخيرة محاولات قطرية لـ«تصدير الأزمة»، عبر جملة ملفات: إثارة قضية إدارة موسم الحج، ملف الفضائح الدبلوماسية والمالية ليوسف العتيبة، ملف دعم السعودية والإمارات للإرهاب، وأدوار «التحالف العربي» ضد اليمن.
وفي مرحلة سابقة، جهدت الدوحة في اتباع استراتيجية «تفريغ الأزمة من مضمونها» من خلال التقرب من مختلف أجهزة الإدارة الأميركية وفتح الصندوق السيادي للصفقات المغرية، وصولاً إلى توقيع التفاهم مع واشنطن حول آليات مكافحة الإرهاب وتمويله، ما قاد تحولاً في خطاب الأميركيين تجاه قطر، من التماشي مع الرباعي المقاطع إلى أخذ موقع الوسيط في الأزمة. وعلى طول الأشهر الثلاثة من عمر الأزمة، أقل القطريون من الكلام الرسمي، وأكثروا من العمل على الأرض لتنفيذ استراتيجية المواجهة، حتى بدت كلمة أمير قطر المتلفزة كـ«خطاب نصر» يتوج نجاحات المراحل الأولى.

مستقبل إدارة الأزمة

على رغم ما حققته الدوحة من نجاحات، فإن الطريقة التي تدار بها الأزمة قد لا تكون صالحة، أو بالحد الأدنى كافية، للمرحلة المقبلة. ولذلك شرع القطريون في تنفيذ مشاريع بديلة اقتصادياً، تجنبهم الاعتماد على الجيران الخليجيين، من بينها بناء مستودعات لمخزون استراتيجي من المواد الغذائية، إلى جانب مشاريع أخرى ستدشن قريباً تحت شعار أطلقه خطاب أمير قطر «رب ضارة نافعة». لكن، ما ليس معلوماً أن تكون الدوحة متنبهة لمخاطره يكمن في الخطاب السياسي والإعلامي الجديد، الذي بالإمكان أن يتحول من عنصر إيجابي إلى نقطة ضعف قاتلة. فالخطاب المتبدل سريعاً، لا يزال يقدم كمناكفات سياسية تفتش عن تسجيل نقاط ضد المقاطعين من جهة، واستعطاف للجمهور العربي من جهة أخرى، عبر مصطلح «حصار قطر». والاستعطاف الذي تراهن عليه الدوحة، لن يكون مجدياً لأكثر من مرحلة عابرة ومؤقتة، فكلما ابتعدنا عن مرحلة ذروة الخلاف الخليجي، لاحت إمكانية استفاقة «الجمهور» على خطاب وتموضع قطري غير واضح المعالم. كمثال على هذه الأزمة، تبرز مفارقة التبدل القطري في خطاب حرب اليمن دون استخدام مصطلح «الحصار»، حيث يقضي المئات من اليمنيين بوباء الكوليرا، فيما يود الساسة في قطر إقناع العالم أن ما يجري ضدهم حصار موصوف.