تونس | نجح الرئيس التونسي وزعيم حزب «نداء تونس»، الباجي قائد السبسي، في إرباك خصومه الذين وُجد أغلبهم في وضع حرج، لا يسمح لهم بغير الإشادة بخطابه الأخير الذي ألقاه لمناسبة «عيد المرأة التونسية».
أما البقية الباقية من «الحلفاء الخصوم» المتموقعين في «حركة النهضة»، وفي انتظار موقفهم الذي لم يعلنوه بشكل رسمي بعد، فقد وضعهم السياسي العجوز أمام امتحان عسير لسبر «حداثتهم وعصرنتهم وتطورهم» التي ما فتئوا يتبجّحون بها من على كل منبر.
كان أول وعود السبسي الانتخابية خلال حملته الرئاسية ضمان حقوق النساء والحفاظ على «النمط المجتمعي» الذي أرساه الزعيم الحبيب بورقيبة. كذلك راج بُعيد نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة أن رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، قد نال أصوات «مليون امرأة»، ليصبح بذلك العنصر النسائي رقماً فاصلاً في معادلة الحروب الانتخابية التونسية (السابقة والمقبلة).
ولعلّ اختيار قائد السبسي لتاريخ 13 آب/أوت 2017 لإعلان سعيه إلى تحقيق قرار كان أكثر المتفائلين والحداثيين يرون أنه لا يمكن أن يُطرح إلا بعد عشرات السنين، لا يمكن أن يكون اعتباطياً. فبعد ما يناهز ثلاث سنوات من اعتلائه «كرسي قرطاج»، وأشهر قليلة قبل الانتخابات البلدية التي لا يستهان بوزنها، قرّر السبسي أن يُشهر «سيف الحداثة والنسوية» في وجه شريحة مهمة من المجتمع التونسي المحافظ، الذي لن يغفر بسهولة «تحريف» قوانين شرعية تمس حياته الأسرية والاقتصادية بشكل مباشر. والسبسي المتمرس في السياسة التونسية يعرف الأمر، ولا بدّ أنه درس نتائجه جيداً، لا سيما أنّ الرئاسة كانت قد أعلنت منذ أسابيع «عن خطاب تاريخي لرئيس الجمهورية».
«المساواة في الإرث» شعار رفعته الحركات النسوية التونسية منذ عقود، ولم يجد آذاناً صاغية، وقوبل بالرفض القاطع، وتعرض المنادون به للتشويه والتهديد، ليفاجئ السبسي الجميع بطرح الأمر في يوم «عيد المرأة»، وفي إطار أنّ «المساواة بين الرجل والمرأة التي أقرّها الدستور التونسي يجب أن تشمل جميع المجالات، بما فيها المساواة في الإرث»، خاتماً كلامه وحججه الخاطفة بتأكيده ثقته «بذكاء التونسيين».

كثرٌ لم يتوقعوا
أن ينتقل الجدال
إلى داخل حركة النهضة نفسها


ساعات بعد خطابه، تهاطلت ردود الفعل من مختلف المشارب، بين مهلّل لهذا «التوجه الثوري» الذي لم يجرؤ رئيس عربي على إعلانه، ومستنكر وشاهر للآيات القرآنية والأحاديث التي اعتُبِرت «واضحة لا تقبل التأويل». لكنّ كثراً لم يتوقعوا أن ينتقل الجدال إلى داخل «حركة النهضة» نفسها، ولعلّ قائد السبسي لم يستهدف غيرها برمي هذا الحجر الذي قد يضرب تشقّقها (الذي لم يعد خافياً على أحد).
أول ردود الفعل المفاجئة جاء من عبد الفتاح مورو، الرجل الثاني في الحركة، ونائب رئيس مجلس نواب الشعب. «الشيخ المرح» الذي عُرف باعتدال مواقفه ورحابة فكره، وصف خطوة الرئيس التونسي «بالحكيمة». وقال إنّ «قائد السبسي رجل حكيم ومدرك وفاهم... وقد وجه مقترحه إلى الإطار الديني وليس إلى الأطراف السياسية». وعن موقفه الشخصي، أعلن أنّ «مسألة الإرث مسألة اقتصادية وليست فردية، ولها تبعاتها وتشعباتها، ويجب دراسة الأمر جيداً وتحديد أهداف ونتائج أيّ تغيير، وأنا على ثقة باللجنة التي ستنكبّ على دراسة المسألة». وتابع قائلاً: «أنا عن نفسي قسّمت إرثي على أبنائي بعدما اتفقوا في ما بينهم وبالتراضي... أنا الآن مرتاح إلى أن أحداً منهم لن يلجأ إلى التقاضي بعد موتي لشعوره بالظلم أو الضيم».
مباشرة إثر هذا التصريح، جاءت إجابة «التيار غير الموالي لراشد الغنوشي» داخل «النهضة»، إذ عبّر عبد اللطيف المكي عن رفضه القاطع للمساواة في الإرث، في تدوينة نشرها على صفحته الرسمية على «فايسبوك». ورأى المكي أن «لا اجتهاد مع نص ديني واضح لم يفكر حتى بورقيبة في تجاهله»، مضيفاً: «باعتبار أنّ موضوع الإرث لا يمثل مشكلة للبلاد وليس هناك ضجر اجتماعي منه ولا علاقة له بالقضايا التنموية الملحة للتونسيين، واستنتاجاً بأن إثارة موضوع الإرث لا علاقة له بمفهوم المساواة التي نحن من مسانديها، وإنما يأتي ضمن أجندة إيديولوجية وسياسية داخلية وخارجية يؤسفنا أن الرئيس لم ينتبه لها... لا يمكن القبول بتغيير نصّ ديني واضح وكفى».
قد يُفهم موقف المكي أكثر إذا ما عُلِم أنه عبّر صراحة عن وجود شق داخل الحركة غير راضٍ عن الصلاحيات المفرطة لرئيسها، ويدعو إلى وجوب تغيير قانون الحركة لإضفاء مزيد من الشراكة. وقال المكي في هذا الصدد: «إنّ هذا الشق لم يتحوّل إلى تيار بشكل رسمي... وفي حال رأى الحاجة إلى ذلك فسيعلن عن نفسه».
وقد تتعزز هذه الأخبار الآتية من مقرّ الحركة في «مونبليزير»، إذا ما أُرفِقت بأنّ رئيس المكتب السياسي لـ«النهضة» نور الدين العرباوي أعلن للوكالة التونسية الرسمية للأنباء أنّ الحركة «لا ترى أيّ إشكال في طرح موضوع المساواة في الإرث بين المرأة والرجل، طالما أنّ هذه المسألة ستطرح ضمن ثوابت الدستور وفي إطار الالتزام بنص الإسلام وروحه». كذلك بيّن أنّ «الموضوع مطروح دينياً ومجتمعياً، ومن حق الأطراف السياسية والمدنية المشاركة في النقاشات المتعلقة به».
في المقابل، يبدو أن عبد الفتاح مورو، وهو المحامي والسياسي الذي لا يقلّ دهاءً عن قائد السبسي، قد استشرف ما سيحدث في صلب حركته أو ما حدث فعلاً، إذ وجّه رسائل واضحة للرئيس التونسي، عبر تصريح إذاعي أول من أمس، أتت بشكل أسئلة استنكارية، وقال فيها: «هل من مصلحة لرئيس الجمهورية في أن تصبح قواعد النهضة بلا رأس؟ وهل من مصلحة في تونس لأن يوجد حزب غير ممثل للتيار الإسلامي؟». وأضاف: «لا أظن أن رئيس الجمهورية يسعى إلى نزع مصداقية النهضة في قواعدها، لأن ليس من مصلحة تونس أن نطيح القيادة الراشدة للتيار الإسلامي التي لم تُثر أي مشكل في النمط المجتمعي إلى حد اليوم».
الحجر الذي ألقاه السبسي كان بوجهين، إذ فتح أيضاً مسألة زواج التونسيات بغير المسلمين، وطالب بإلغاء منشور سنة 1973 الذي يمنع زواج المرأة التونسية بأجنبي غير مسلم، وذلك رغم أنّ هذا المنشور الذي يتعارض مع الدستور التونسي سوف يلغى عاجلاً أو آجلاً، ومصيره الزوال بعد إنشاء محكمة دستورية. وهي ورقة رابحة نسبها قائد السبسي لنفسه بلا أدنى جهد.




«أزهر السيسي» يدخل على الخط

انتقد وكيل «الأزهر» عباس شومان دعوة الرئيس التونسي، معتبراً أنّ المساواة بين النساء والرجال في الميراث «تتصادم مع أحكام شريعة الإسلام». ورأى شومان في بيان أنّ «المواريث مُقسّمة بآيات قطعية الدلالة لا تحتمل الاجتهاد ولا تتغيّر بتغيير الأحوال والزمان والمكان، وهي من الموضوعات القليلة التي وردت في كتاب الله مفصّلة لا مجملة، وكلها في سورة النساء».
وفي ما يخصّ طلب قائد السبسي من الحكومة «التراجع عن» منشور عام 1973 الذي يمنع زواج التونسيات المسلمات من غير المسلمين، قال شومان إنّ «الدعوات المطالبة بإباحة زواج المسلمة من غير المسلم ليست كما يظن أصحابها في مصلحة المرأة». ورأى أن هذا الزواج «الغالب فيه فقد المودة والسكن المقصودين من الزواج»، إذ لا يؤمن غير المسلم بدين المسلمة، وبالتالي «لا يعتقد تمكين زوجته من أداء شعائر دينها فتبغضه ولا تستقر الزوجية بينهما».
وقد أثار دخول «الأزهر» في هذا النقاش غضب شريحة واسعة من التونسيين، إذ رأى بعضهم أنّ «المسألة تونسية بحتة ولا يحق للأزهر التدخل، خاصة أنّ لتونس مؤسّساتها الدينية العريقة»، فيما هاجم آخرون هذه المؤسسة الدينية، بوصفها «أزهر السيسي... تتبع لنظام (الرئيس المصري) عبد الفتاح السيسي، ومن الأفضل لها الاهتمام بمواقفها».