إنصاف أدوار الرجال على مسارح الأحداث الكبرى، قضية سياسية وأخلاقية، تكتسب ضروراتها من سلامة الذاكرة العامة. هذه مسألة تختلف جذرياً عن طلب الثأر وتصفية الحسابات لأهداف لا صلة لها بأي إنصاف. لم تكن الحملة الجديدة على ثورة يوليو في ذكراها الخامسة والستين باسم إنصاف اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية في مصر، خروجاً عما اعتادته الحملات، التي اتصلت دون انقطاع لما يقارب النصف قرن، من تشهير بخياراتها الرئيسية ومعاركها الكبرى. لا إنصاف نجيب قضيتها، ولا طلب الحقيقة موضوعها.
لم تكن الحملات المتصلة فرقعات إعلامية وسياسية في الهواء السياسي، بقدر ما كانت تسويغاً لما طلبته إدارات أميركية متعاقبة من أن تكون يوليو آخر الثورات، وعبدالناصر آخر الزعماء، و«أكتوبر» آخر الحروب، الوثائق حاضرة لمن يريد أن يقرأ، ومن بينها ما كتبه وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر. القضية ليست جمال عبدالناصر، فقد فشلت كل الحملات الضارية على إرثه وتجربته ومشروعه والأحلام الكبرى التي أطلقها، وهذه كلها تستحق المراجعة الجدية لنعرف ما الذي جرى بالضبط، كيف انتصرنا حين انتصرنا ولماذا أخفقنا حين أخفقنا.
القضية الحقيقية ألا تكفر مصر بتاريخها وثوراتها، وأن تكتسب بالوعي قدرتها على التصحيح والتصويب في الحركة إلى المستقبل، تعتز بمعاركها دون إغفال لمناطق الضعف التي أفضت إلى الانقلاب على ما أنجزته. بأي نظر موضوعي، فإن اللواء نجيب هو ضابط مصري وطني بلا أدنى شك، حارب في فلسطين وجُرح ثلاث مرات ونال أوسمة على شجاعته وتمتع بخصال شخصية أكسبته ثقة الضباط الأحرار بقيادة عبدالناصر. قرب نهاية عام ١٩٥١ كان مرشحهم لرئاسة نادي الضباط، وبدا ذلك اختباراً لقوتهم وقدرتهم على التأثير في التوجهات العامة داخل الجيش المصري.
بنفس النظر الموضوعي، فإنه تحمل مسؤولية الموقف الصعب ليلة ٢٣ تموز/ يوليو. لم يكن مؤسس تنظيم «الضباط الأحرار» ولا قائده، ولم يحضر اجتماعاً واحداً لهيئته التأسيسية قبل الثورة، كما لم يكن صاحب خطة التحرك التي حددت الساعة الصفر. لكن اسمه على رأس الحركة ساعدها على اكتساب ثقة المجتمع بما يتمتع به من سمعة طيبة.
كانت معضلة «الضباط الأحرار» الذين أطاحوا النظام الملكي المتهاوي، أن قائدهم عبدالناصر في الرابعة والثلاثين من عمره ورتبته «بكباشي»، وهو أمر يصعب تقبله من مجتمع تقليدي يضع للسن اعتباره في تولي المسؤولية العامة. هذا كله صحيح وثابت ويستحق نجيب بمتقضى حقائقه إنصاف دوره.
غير أن أي إنصاف له إطار وسياق، وإلا فإنه اعتداء على الحقائق ومبالغة في ما لا يصح أن يبالغ فيه.
إطلاق اسمه على قاعدة عسكرية في غرب مصر (قبل أيام)، وُصفت بأنها الأكبر في الشرق الأوسط، نوع من التكريم يستحقه للدور الذي لعبه في إنجاح الثورة. لا يصح أن يماري أحد في ذلك دون إغفال مجموعة من الحقائق. الأولى، أنه لم يكن الاسم الوحيد الذي فكر فيه «ثوار يوليو» ليكون واجهتها، فقد جرى التفكير في قائد عسكري آخر من قيادات حرب فلسطين يتمتع بقوة الشخصية، هو اللواء فؤاد صادق، غير أنه أجفل ــ حسب بعض الروايات ــ عن قبول المهمة التي قد تكون نتائجها وخيمة. بحسب رواية غير مؤكدة فإن الاقتراح نفسه عرض على الفريق عزيز المصري، لكنه اعتذر بسبب تقاعده منذ فترة طويلة.
كان نجيب هو الخيار الأفضل بالنسبة إلى عبدالناصر، والأكثر استعداداً في نفس الوقت لتصدر الحركة. عبدالناصر اختار، ونجيب وافق، وتحددت مصائر اللعبة بعد ذلك على هذا الأساس.
القائد الحقيقي ليس هو القائد الواجهة والرجل القوي ليس هو الرئيس المعلن. هكذا نشأ الصراع على السلطة.
والثانية، لم يكن عبدالناصر متآمراً، ولا كان نجيب ملاكاً. وقد ورد في التحقيقات، التي أجريت مع المتورطين من جماعة الإخوان المسلمين في محاولة اغتيال عبدالناصر عام ١٩٥٤، أن الرئيس نجيب كان على علم مسبق بما خطط له، لكنه طلب عدم ذكر اسمه إذا لم تنجح المحاولة خشية ردات الفعل. كان ذلك السبب المباشر في إطاحته، لم تجر أي محاكمة له تقديراً لدوره في تصدر مشاهد الثورة الأولى، ولا شُهِّر به على صفحات الجرائد.
طويت صفحته وغاب ذكره وأودع تحت الإقامة الجبرية في قصر بالمرج تملكه السيدة زينب الوكيل، حرم رئيس «حزب الوفد» مصطفى النحاس. غير أنه بنظرة أخرى فقد كان يستحق بعد مضي عدد من السنين نوعاً من العفو ودرجة من التسامح، خاصة بعد اكتساب عبدالناصر شعبية هائلة لا مثيل لها في التاريخ الحديث وتثبيت أركان حكمه إثر النتائج السياسية لتأميم قناة السويس ١٩٥٦ وخروج مصر دولة كبرى في إقليمها وقارتها وعالمها بعد فشل العدوان الثلاثي عليها.
هنا يتبدى سؤال افتراضي: ما الذي كان يمكن أن يفعله اللواء نجيب بمجلس قيادة الثورة إذا ما قدر له حسم السلطة بدعم من الإخوان المسلمين؟ التاريخ لا يعرف الأسئلة الافتراضية وصراعات السلطة لا تعرف الرحمة. الإجابة الوحيدة: التنكيل المفرط. ثم يتبدى سؤال افتراضي آخر: هل كان يمكن أن تكون هناك ديموقراطية مع الأفكار الشائعة للجماعة التي تناهض فكرة التعددية إذا ما قُدِّر لنجيب أن ينتصر في صراع السلطة؟ أي إجابة سهلة معبر إلى مجهول معتم.
والثالثة، أن دور نجيب كواجهة لـ«يوليو» يتوقف عند تحمل مسؤولية الحركة في لحظة «الانقلاب». بأي تعريف كلاسيكي، «يوليو» الانقلاب الوحيد في التاريخ المصري الحديث. وبأي تعريف كلاسيكي، «يوليو» الثورة الوحيدة حيث حكمت وغيرت التركيبة الاجتماعية والبيئة الإقليمية على نحو جذري، وهو ما لا يتوافر لأي انتفاضة أخرى.
بهذا المعنى، فإن «يوليو» هي عبدالناصر، ولا أحد آخر يضاهيه أو ينازعه. الثأر من عبدالناصر ــ باسم نجيب ــ هو ثأر من «يوليو» ومعاركها وقضاياها. هذه هي الحقيقة بلا لف أو دوران.
وقد ضمت الحملة على «يوليو» هذه المرة مجموعة متناقضات تشمل جماعة الإخوان وبقايا جرحى الثورة، الذين أضرتهم توجهاتها الاجتماعية والاستراتيجية، والذين يكرهون الحاضر ويتصورونه امتداداً لـ«يوليو» التي أسست لما يسمونه «حكم العسكر» دون إدراك أن ثورات مصر جميعها شارك الجيش فيها بأدوار أساسية باستثناء ثورة ١٩١٩ حيث كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني.
إنكار الدور الوطني للجيش المصري منذ الثورة العرابية جهل بالتاريخ واستخفاف به، وهذه قضية تختلف عن ضرورة بناء دولة مدنية ديموقراطية حديثة يلتزم فيها الجيش بأدواره الدستورية في حفظ الأمن القومي ولا يتدخل في السياسة.
الأكثر لفتاً للانتباه أن جهات في الدولة شاركت بلعبة خلط الأوراق حيث روجت لنجيب على أنه «الأب الروحي للثورة»، وهذا افتراء كامل على الحقيقة والتاريخ.
والرابعة، أنّ مذكرات نجيب المنشورة، شابتها مرارة واضحة، وهذه مسألة إنسانية مفهومة، غير أنها أمعنت في تسييس التاريخ لمقتضى تصفية الحسابات.
عندما صدرت في بيروت أول طبعة من مذكراته، انطوت على انتقادات عنيفة للأخوين مصطفى وعلي أمين، غير أن الطبعة المصرية حذفت كل هذه الانتقادات، فقد تغيرت الظروف وصعد دور التوأم الصحافي الشهير بعد إطاحة رئيس تحرير «الأهرام» الأستاذ محمد حسنين هيكل، وهذا ليس تاريخ وتلك ليست مذكرات يُعتدُّ بها.
ما تحتاجه مصر أن تقرأ تاريخها بموضوعية، وأن تنصف نفسها أولاً بكل ما خاضته من معارك وبذلته من تضحيات حتى تستحق أن يرتفع من جديد ذكرها.
*كاتب وصحافي مصري