تعرفت منذ عام على أخوة لي في غزة، ربما المدة الزمنية ليست طويلة لوصفهم بالأخوة، ولكن ما عشناه وما مررنا به سوية في تلك الفترة كان كافياً لجعلي أخاف وأبكي وأقلق عليهم. في العام الماضي عشت تفاصيل الحرب على غزة، وعلى مدار الساعة طيلة 51 يوماً استمعت إلى أصوات القذائف المتساقطة، وإلى أصوات سيارات الإسعاف، وأصوات الصواريخ المقاومة المنطلقة من القطاع المحاصر اتجاه أراضينا المحتلة.
في تلك الفترة، تعرفت إلى مسحراتي غزة، فالحرب بدأت في شهر رمضان، أذكر تلك الليلة التي كنت أستمع فيها عبر الهاتف إلى صوت المسحراتي وصديقي نضال الوحيدي يطلب منه إيقاظ قاسم (مع تفخيم القاف). صرخ المسحراتي «يا قاسم قوم صلّي ع النبي». لا يعلم الرجل أنني في بيروت وكل صراخه لن يصل إليّ. ضحكت أنا ونضال طويلاً، وفي تلك اللحظة، سقط صاروخ إسرائيلي، ليوقظ كل أبناء القطاع معلناً بدء عملية «الجرف الصامد». لم تكن الحرب وليدة اللحظة، فقد سبقتها «أحداث الخليل»، والتي راح ضحيتها «شهيد الفجر» الطفل محمد أبو خضير الذي اختطفه الصهاينة وهو في طريقه إلى المسجد وأحرقوه، رداً على مقتل ثلاثة مستوطنين. وكعادتها، ولأن غزة هي «هانوي فلسطين» لبّت الفصائل نداء المقاومة، وأطلقت عدداً من صواريخها على مستوطنات غلاف غزة لتخفيف الخناق عن أبناء الضفة. نضال كان أشطرنا، استغل التكنولوجيا، وأنشأ قناة على تطبيق «زيلو» باسم «بال برس» لنقل الأحداث والمواجهات في الخليل ومخيم شعفاط وغزة. كبرت القناة التي ضمت في بداية انطلاقتها 60 شخصاً لتصل اليوم إلى ما يقارب الـ7 آلاف مستمع. كان هؤلاء مراسلين للقناة، نقلوا ما يرونه بأمّ عينهم فقط. حددوا أماكن وجود حواجز الشرطة الإسرائيلية، عدد الإصابات وخطورتها، وعدد الشهداء، وخلال الحرب على غزة غطّوا أماكن الاستهدافات، وعدد الشهداء. قسّم هؤلاء الشبان الموزعون على كامل الوطن الفلسطيني أنفسهم إلى مجموعات، منهم من كان اختصاصه الترجمة من العبرية مثل صهيب مسالمة، الشاب الرائع العارف بعقلية الإسرائيلي، إضافة إلى لانا كاملة وجنا نبوت اللتين نقلتا عمليات الجيش في الضفة. خلال حرب غزة، كانت التغطية أصعب، واجه المراسلون والقناة صعوبات عدة بسبب الانقطاع الدائم للتيار الكهربائي والإنترنت، ولتنقّلهم بين المستشفيات تحت القصف. ومع استمرار الحرب، وانشغال أغلب وسائل الإعلام بكأس العالم كان سكان غزة يواجهون موتهم اليومي لوحدهم. ففي إحدى الليالي اختلفت كثافة وضخامة أصوات الانفجارات عن المرات السابقة التي سمعتها مسبقاً. في تلك الليلة ترك بكاء سامر الزعانين الصحافي الذي كان يرافق سيارات الإسعاف وطواقم الدفاع المدني، أثره في نفسي. بكى لأنه رأى الموت بعينه ولم يستطع إيقافه. صرخ سامر عبر الهاتف «في مجزرة عمّال تصير، في ناس جوّا عالقة، دقوّا للصليب (الأحمر) لنفوت، في ناس هربت قالت الجثث ع الطرقات». سامر كان ينقل لنا «لايف» (مباشرة) من دون أن يعرف ما سيسمى لاحقاً بمجزرة الشجاعية. في تلك اللحظة لم أتمالك نفسي، ونسيت أنني جالس في مقهى، بكيت على بكاء سامر. حاولنا التواصل مع «الصليب» ونجح أحد المغتربين الفلسطينيين الذي سمع إشارة سامر بالاتصال بالمركز الرئيسي في سويسرا. أبلغوه أن إسرائيل رفضت التهدئة أو السماح بدخول سيارات الإسعاف إلى الشجاعية. بعد انتهاء الحرب تبيّن أن عنف القصف على تلك المنطقة سببه أسر المقاومة لجنود إسرائيليين وأن العدو طبّق إجراء هنيبعل (سياسة قتل الخاطف والمخطوف) ضدهم. مرّت أيام الحرب ببطء، فرحنا بإنجازات المقاومة، خصوصاً بعد عملية زيكيم (اقتحام القسام موقعاً للعدو)، وبكينا عندما قصف الطيران الإسرائيلي منزل عائلة الدلو من دون أن نعرف أن المستهدف هو القائد العسكري لكتائب القسّام محمد الضيف. رأينا على الشاشات زعانين أمام مستشفى الشفاء حاملاً طفلاً استشهد بسبب القصف واكتشفنا لاحقاً أنه علي ابن محمد الضيف. طال أمد الحرب، واستهدفت منازل واستشهد أقارب بعض الزملاء في القناة، ففي إحدى المرات ترك أسامة حميّد البناية التي يسكنها بعد ورود اتصال من الجيش الإسرائيلي يطلب منهم إخلاءها في خمس دقائق قبل قصفها. أمسكنا قلوبنا بيدنا، هل يتحول من تعرفت إلى صوته إلى شهيد، خلال هذه الدقائق. عاد إلينا ليقول إن البناية المستهدفة هي التي تقع بقربهم وأن الأضرار التي لحقتهم محصورة بالزجاج المتطاير. كما لا أزال أذكر استشهاد الزميل الصحافي رامي ريان بعد قصف مدفعي تعرضوا له، وإصابة الزميل حامد الشوبكي الذي ترك غزة بسبب إصابته للعلاج في مصر ومن ثم تركيا. بالطبع تخللت الحرب فترات من الهدن، كنا نرتاح فيها ونستغلها للنوم. عند انتهاء الحرب شعرنا أننا كلنا انتصرنا وأننا كنا جزءاً من الانتصار. بعد هذه التجربة عرفت غزة أكثر، بت جزءاً من أحيائها صرت أعرف الشجاعية ومخيم الشاطئ وخان يونس ورفح. بعد الحرب على غزة أصبح لي أخوة هناك سألتقيهم يوماً ما. اليوم، وبعد مرور عام على الحرب على غزة كبرت القناة، خصوصاً بعد اكتشافنا أن بعض مسؤولي الفصائل وفضائيات ووسائل إعلام محلية وعالمية كانت ولا تزال تتابعها وتأخذ أخبارها منها. اليوم أصبح الفريق المتخصص بالترجمة العبرية أكبر ويضم أبو يزن، وأبو حسين، وفي القدس هناك عبد الرحمن الخالدي وميرفت صادق. أما في غزة فهناك حاتم هاني، ومحمد ومثنى النجار. في غزة لي أخوة جمعتني بهم التكنولوجيا والحرب والموت والانتصار. في غزة لي أخوة سألتقيهم يوماً ما، سمح الجانب المصري لي بذلك أم لم يسمح.