مرة بعد أخرى تطرح الأسئلة الكبرى نفسها دون أن تجد ما تستحقه من إجابات تلهم التماسك الوطني أمام ضربات الإرهاب المتكررة في سيناء والداخل المصري. أخطر الأسئلة: ما مستقبل «داعش» في شمال سيناء؟... وإلي أيّ حد يفسح المجال لنزعها عن الخريطة المصرية؟السؤال ليس افتراضياً، فهو مطروح بصورة أو أخرى على سيناريوهات المستقبل، وبعض الخطط معلنة. ضرورات التنبه تستدعي الوضوح في السياسات والمواقف وأن تكون حاسمة وخطوطها الحمر مشرعة.

هناك أمران متداخلان على نحو مثير كأن أحدهما يمهد للآخر دون أن تكون هناك ــ بالضرورة ــ صلة مباشرة. «داعش» يضرب باسم «إمارة سيناء» الملتحقة بتنظيم «الدولة الإسلامية» الذي بدأ بالتداعي في المشرق العربي... وإسرائيل قد تجني النتائج باسم «صفقة القرن» التي تعني ــ بالضبط ــ تصفية القضية الفلسطينية.
لم يكن الهجوم الإرهابي الأخير في رفح جملة عنيفة خارج سياق التحولات الجارية في الإقليم. بالتوقيت، تزامن ذلك الهجوم مع حسم معركة الموصل وتقويض مشروع «دولة الخلافة»، كأنه نوع من الرد العنيف في سيناء على سلسلة الهزائم المتلاحقة، التي تعرّض لها التنظيم المتطرف في العراق وسوريا، وتكاد تحكم عليه قبضتها الأخيرة.
بصورة أو أخرى، فإن الرسالة التي أرادها الهجوم الإرهابي، بأحجام النيران المستخدمة وأعداد المقاتلين الكثيفة، تأكيد الوجود على الأرض في لحظة انحسار إقليمي، وأن المشروع لا يزال ممكناً أن يصمد رغم الضربات المميتة التي تلقاها والمقتل المرجح لمؤسسه أبو بكر البغدادي.
من الأسئلة الكبرى التي تطرح نفسها الآن بإلحاح على اللاعبين الكبار في العالم والإقليم: ماذا بعد «داعش»؟... وما مستقبل التنظيم بعد هزيمة مشروع «دولة الخلافة»؟
لا أحد يقول إن التنظيم انتهى أمره وانصرف خطره، والتحذيرات بدأت تتعالى نبرتها من أن هناك جولات أخرى عنيفة في المواجهة مع فلوله. بعض الجولات قد تأخذ شكل عمليات إرهابية بالسيارات المفخخة والأحزمة الناسفة تضرب حيث تستطيع أن تصل، ويمتد عنفها إلى العواصم الغربية.
غير أن غياب أرض يقف عليها التنظيم يدفع للاعتقاد بأن خصوصيته سوف تتآكل على نحو فادح، وأن عضويته قد تتنازعها تنظيمات متطرفة أخرى مثل «القاعدة»، بالنظر إلى أنه قد خرج من تحت عباءتها التنظيمية والفكرية.
وبعض الجولات قد تأخذ شكل تمركزات على الأرض في مناطق جديدة، أو استعادة بعض ما خسره التنظيم؛ فقدرته على الضم والتجنيد تعود بالأساس إلى مشروعه ودرجة العنف غير المسبوقة ضد كل ما يمت بصلة إلى الحضارة الحديثة، أو التنوع الديني، والتي استقطبت أعداداً كبيرة من اليائسين والمحبطين وبينهم مهمشون في الحواضر الغربية. إنّ قوة التنظيم المتطرف في مشروع «دولة الخلافة» ووجوده نفسه مرتبط به.
ذلك يرجح سيناريو إرسال مقاتلين وسلاح إلى المناطق التي يعتقد التنظيم أن لديه فرصة ما للتمركز فوقها وبناء دولته عليها، وشمال سيناء أحد المستهدفات الرئيسية. بكل قياس، يستحيل تماماً بناء مثل هذه الإمارة، فمن ناحية الأصل تقوّض، و«الدولة» انهارت، و«الخليفة» على الأغلب قتل، والعقيدة القتالية المصرية تنظر إلى سيناء كمسألة حياة أو موت، فقد خاضت فوقها أو عبرها كل المواجهات العسكرية بأعوام ١٩٤٨، ١٩٥٦، ١٩٦٧، و١٩٧٣.
وقد تجلت تلك العقيدة القتالية في الحادث الإرهابي الأخير حيث صمدت «الكتبية ١٠٣ صاعقة» في مواجهة الهجوم عليها حتى النفس الأخير، واستشهد وأصيب من رجالها عشرات الضباط والجنود على رأسهم العقيد الشهيد أحمد المنسي، الذي تحوّل إلى بطل وطني بدفاعه المستميت عن موقعه.
من الآثار السياسية لما جرى في رفح تأكيد الثقة العامة في القوات المسلحة المصرية واستعدادها للاستشهاد في سبيل حفظ الأرض مهما كان الثمن باهظاً، وأنّ النصر محسوم في النهاية.
غير أن ذلك الأثر السياسي الجوهري كادت تبعثره تصريحات متفلتة عبر منصات برلمانية وإعلامية، دعت إلى إخلاء شمال سيناء من سكانه وتهجيرهم إلى الداخل. وتلك جريمة تاريخية متكاملة لا مثيل لخطورتها على الأمن القومي المصري.
معنى التهجير، التسليم بما يطلبه الإرهاب من أهداف في إثبات عدم قدرة الدولة على حفظ حياة مواطنيها وأنها لا تثق في أهالي سيناء. أرجو أن يتذكر كل من ارتفع صوته بدعوات التهجير والإخلاء، أن أهلها (أهل سيناء) لعبوا أدواراً تاريخية في مواجهة احتلالها عام ١٩٦٧، وأن «منظمة سيناء العربية» التي أنشئت أثناء حرب الاستنزاف ضمت أعداداً كبيرة، ومنهم تولوا إمداد القوات المصرية بالمعلومات ووفروا الخدمات اللوجيستية للمقاتلين الذين كانوا يعبرون قناة السويس، فضلاً عن إخفائهم عن الملاحقة الإسرائيلية في بعض الحالات. لا يمكن كسب الحرب مع الإرهاب في سيناء إلا إذا كان أهلها في المقدمة شريكاً أصيلاً.
شمال سيناء تعني أهلها قبل أي شيء آخر، دونهم فهو مشروع فصم عن الخريطة المصرية. بالتفريغ السكاني هناك خشية حقيقية من أن تتوافر أسباب ذلك الفصم، فأمام العالم، هذا اعتراف بالعجز عن السيطرة، وهذا غير صحيح إلى حدٍّ كبير.
هناك أوجه قصور مؤكدة في المعلومات غير أن العجز مسألة أخرى. الاعتراف بالعجز يزكي إخراج الخطط القديمة من أدراجها. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أشار إلى مشروع ضم أجزاء من شمال سيناء إلى قطاع غزة في إطار تبادل أراضٍ مع مصر حتى تكون «غزة الكبرى» وطناً بديلاً للفلسطينيين في ما يُسمى بـ«صفقة القرن».
المعنى في ذلك كله أن هناك مشروعين خطيرين لمستقبل سيناء، الأول «داعشي» منهك لكن احتمالاته شبه منعدمة بالنظر إلى حقائق القوة... والثاني إسرائيلي ممكن إذا فرغت من سكانها للتخلص من صداع القضية الفلسطينية، على حساب مصر.
يصعب استنتاج أن إسرائيل تحارب في المعركة نفسها مع مصر في سيناء، فمثل هذا الكلام ساذج. من مصلحتها أن توظّف الإنهاك المصري، مع نقص السيادة في سيناء، وفق مصالحها وخططها. هذا ما يحدث بالضبط ويستدعي الالتفات لمصادر النيران المتعددة دون أوهام.
ما يحفظ سلامة أي بلد، أهله وجيشه ووضوح سياساته. أن تكون هناك استراتيجية واضحة ومقنعة تصحح الأوضاع الداخلية المختلة وتقلص أي بيئات حاضنة للإرهاب وجماعاته.
إضافة إلى التفلت في النظر إلى أهالي سيناء، فإن هناك تفلتاً آخر تبدّى على ذات المنصات البرلمانية والإعلامية، باتهام حركة «حماس» بالضلوع في الهجوم الإرهابي الأخير، دون إدراكٍ لخطورة الاتهامات في لحظة تتبدى فيها تفاهمات أمنية بين السلطات المصرية والحركة لضمان أمن سيناء بإجراءات صارمة على حدود القطاع من ناحية وتخفيف المعاناة عن أهالي غزة من ناحية أخرى بفتح «معبر رفح» لحركة البشر والبضائع بصورة منتظمة.
التفاهمات الأمنية تحتاج إلى تقصّي أبعادها السياسية، فالتسريبات الشائعة عن حكومة جديدة في غزة يترأسها العقيد محمد دحلان، المفصول من «حركة فتح»، قد يربك المشهد الفلسطيني قبل أي مفاوضات. صعود دحلان مشكلة كبيرة، فطموحه مسنودٌ إسرائيلياً. الأخطر، تكريس القطيعة بين الضفة والقطاع، وتلك بيئة تناسب البحث عن أوطان بديلة، في الأردن أو شمال سيناء، تنهي القضية الفلسطينية وحق العودة إلى الأبد.
السياسة تُدار بالحقائق لا بالنوايا، إذا لم تكن السياسات حاسمة فإنّ كل شيء محتمل ووارد وممكن. في مثل هذه المعارك الوجودية إما نكون أو لا نكون. هكذا كانت قضية العقيد الشهيد أحمد المنسي.
*كاتب وصحافي مصري