صدق من قال إن طائرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حطّت في مطار موسكو، بعد أن أصيبت بخلل في محركها، منعها من مواصلة الطيران والوصول إلى مقاصدها. في هذه الأثناء، يتمتع الضيف الذي أُجبر قسراً على النزول إلى الأرض بضيافة روسيا ولياقتها، وأيضاً إيران، مطأطأ الرأس، في انتظار أن يأتي أحد ما ليصلح المحرك، والأمل بأن يكون من واشنطن، علّ الطائرة تعود مجدداً إلى التحليق. وهو تشبيه يكاد يحاكي الواقع كما هو.
لم تأت أنقرة، شبه منصاعة الى موسكو، لأنها قررت الانعطافة والابتعاد عن سياساتها في سوريا. لا تطابق في الموقف أو الأهداف أو تقارب فيها، سواء مع روسيا أو إيران، كي تجلس إلى طاولة المفاوضات لترضى بتلقّي تسوية يفرضها خصومها. جاءت إلى موسكو بعد انكسار مشروعها، أو بعبارة أدق، تبيّن مسار انكساره، وبعد أن حاولت كل مستطاع لمنع ذلك. نعم، كياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وضمن سياسة جذب نظيره التركي إلى طاولة المفاوضات السياسية بشروطه هو، دفعته إلى إعطاء أردوغان أسهماً في «تسوية حلب»، والحديث عن دور إيجابي فيها، لكن ذلك لا يلغي أنه قام (أردوغان) بكل ما يلزم لتخريب وتأجيل انتصار الجيش السوري في المدينة، قبل الانتصار وخلاله، بلا طائل.

جاءت أنقرة إلى موسكو بعد تبيّن مسار انكسار مشروعها


وتنقل مصادر عليمة بما يجري في مداولات اللقاءات الثلاثية، المعلنة وغير المعلنة، بين إيران وروسيا من جانب، وتركيا من جانب آخر، شبه توافق حول سلة بنود للتسوية في سوريا، أو توجهات عامة نحو تسوية، تشمل مراعاة جزء من المصالح التركية التي تسمح مصالح المنتصرين في حلب بالتعايش معها. مع ذلك، تضيف المصادر أنّ الجانب التركي الذي يحرص على إظهار توافق، يرفض بنوداً ثم يعود ويتحفظ عليها ليقبل بها في نهاية المطاف، مع التشديد على أنّ التسوية أنجزت بخطوطها العامة، والبحث يتعلق بتفاصيلها.
مع ذلك، أيضاً، تعبّر المصادر عن شكوك حول موقف تركيا التي تنصاع مُكرهة إلى تسوية، هي في الواقع، دون حد أدنى من طموحات كانت مترسخة لديها حتى الأمس، وما زالت، الأمر الذي يفسّر كيف أنها تحرص على التوافق في موسكو من دون أن ينعكس ذلك على مقاربتها الفعلية في الميدان السوري. تبلور التسوية الثلاثية، أو بتعبير أدق، تبلور معالمها الرئيسية، لا يجد أي تعبير أو إشارة على الأرض، وكذلك في المواقف المعلنة التي تحرص على الامتناع عن تغييرها، إضافة الى الإبقاء على رعاية أنقرة للجماعات المسلحة ومحاولة تجميع قواها ومنع انهيارها وإعطائها جرعات أمل بعد هزائمها في حلب، بل وأيضاً تأكيدها لهم أنها لن تحيد عن أهدافها، وكل ذلك لا يتوافق بالمطلق مع مسار تبلور التسوية في موسكو.
الواضح من الموقف التركي أنه يمرّ في مرحلة انتظار لا تخلو من أمل. من موقعها كمهزوم أمام الإيراني والروسي، وبطبيعة الحال أمام حليفيهما الدولة السورية، تنصاع أنقرة إلى تسوية تفرض عليها مكرهة، وإن حرص الطرفان على مراعاتها في شكل وطريقة تظهير هذه التسوية. لكن في موازاة ذلك، أنقرة هي في الأساس تمرّ في مرحلة انتظار إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتتطلع الى انكشاف استراتيجيته في ما يتعلق بالساحة السورية؛ فإن قرر وفقاً للمصالح الأميركية التي تشخّصها هي أن يواصل استراتيجية الإدارة الحالية والنكث بوعوده الانتخابية، فبإمكان أنقرة أن تتراجع عمّا انصاعت إليه في موسكو، أما إن قرر المضي قدماً بوعوده الانتخابية، فستكون هي قد أقدمت مسبقاً على حجز مقعد لها في التسوية النهائية بين روسيا وأميركا، التي تفترض أنها ستبنى (التسوية النهائية) على التسوية المتبلورة في موسكو بين الأطراف الثلاثة: إيران وروسيا وتركيا. يعني ذلك أن أنقرة انصاعت لإرادة خصومها وأعدائها، مع وقف التنفيذ، في انتظار الإدارة الأميركية المقبلة.
بالطبع، وفي موازاة ذلك، المرحلة الحالية هي مرحلة تجميد الأعمال العسكرية وفتح الباب على مصراعيه للعروض والتسويات السياسية، وهي تتركز على معادلة طرف يتجه إلى انتظار وطرف يتجه إلى انكسار. يعني ذلك أن وقفاً للأعمال القتالية قد يخرج سريعاً إلى حيّز التنفيذ الفعلي، كجزء من الاتفاق والتسوية، أو كفعل مستقل، بما يتوافق تماماً مع مرحلة انتظار الموقف الأميركي الجديد، خاصة أن لا ضرورة لاستئناف القتال من جهة الدولة السورية وحليفيها، إلا ما لزم، وذلك لمعاينة ما يمكن أن يصلوا إليه سياسياً كترجمة لانتصارهم العسكري في حلب، فيما الطرف الآخر، بداهة، غير قادر في هذه المرحلة على فعل شيء ميداني، وهو بالأساس ما كان ليتوجه إلى موسكو لو كانت هذه الامكانية موجودة لديه.
تبقى المواقف والتصريحات التركية المعلنة، التي تهدف الى إفهام الحلفاء والأتباع أنها لم تحد عن مسارها وتموقعها الى جانبهم، في موازاة مواقف وتصريحات أخرى، تهدف أيضاً الى إفهام الخصوم والأعداء أنها انعطفت بالفعل. وهو تجاذب وتناقض يعبّر أكثر عن موقع أنقرة التي تمر في مرحلة انتظار، علماً بأن إصدار المواقف والتراجع عنها ليسا جديدين، مع الأمل هذه المرة أيضاً أن لا تفهم التصريحات بمعناها الحرفي.
في سياق ذلك، وفي موازاته، كان لافتاً جداً خروج الدول الخليجية، وتحديداً السعودية وقطر، من دائرة الضوء. خروج يحمل توصيف الإذلال كما يرى البعض، وهو كذلك. وللقياس، كانت الرياض تشدّد على أن إيران هي جزء من المشكلة ولا يمكن لأحد أن يسمح لنفسه بأن يتخيّل أنها ستكون جزءاً من الحل. أما الآن، فها هو وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان، ومن موسكو، يؤكد استحالة مشاركة السعودية في المحادثات السورية، لأن الرياض تسعى لإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد. ويضيف، بلهجة المنتصر، أنه «لا يمكن التفاوض مع أولئك الذين يطمحون إلى ذلك، ومن الضروري أن نعطيهم جواباً حازماً، وهذا ينطبق على الآخرين أيضاً».