شبكات تسفير وجهات سياسية، إقليمية بصورة خاصة، سهلت وموّلت خروج عشرات الشبان من تونس إلى سوريا والعراق وغيرها من بؤر التوتر وتنامي الإرهاب. واليوم، بينما تقف تونس عند أبواب العام السادس بعد الثورة، يبدو أنّ المتغيرات الإقليمية تدفع بقوة نحو إعادة فتح ملف «المسفّرين» بشكل جدي، والسؤال بشأن مصير التونسيين العائدين، أو الذين سيعودون، من «نيران المشرق العربي» الذين ساهموا في إشعالها.
رداً على سؤال عن إمكانية عودة المقاتلين التونسيين إلى بلادهم، كانت قناة «أورونيوز» قد وجهته للرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، أثناء زيارته الأخيرة إلى بروكسل، جاء ضمن إجابته بأنه «لا نمنع أي تونسي من العودة إلى بلاده، لأنه مبدأ دستوري»، وقد تبع ذلك التصريح إعلان لاحق، قال فيه السبسي إنّ «العديد من المقاتلين يرغبون بالعودة إلى تونس، ولا يمكن منعهم من العودة إلى بلدهم».
تصريحات السبسي هذه لاقت رفضاً في البلاد لأنها قد تصب في خانة إعادة إحياء ما سمي «قانون التوبة» الذي بادرت إلى طرحه «حركة النهضة» عام 2014، ولاقى موافقة الرئيس السابق، المنصف المرزوقي، بذريعة «العفو عن المغررّ بهم وعقد صلح بينهم وبين الدولة»، لكن المتقرح برمته لم يجد طريقه إلى الموافقة.

تطغى النقاشات حول العائدين من نيران المشرق التي ساهموا في إشعالها

وفيما يبدو راهناً أنّ الباجي قائد السبسي قد تراجع عن تصريحاته السابقة، معلناً، أول من أمس، أنه «لا تسامح ولا عفو ولا قانون توبة، فقط قانون الارهاب سيطبّق على الإرهابيين إن عادوا إلى تونس، وهذه مسألة نهائيّة لا تراجع فيها»، يرى الباحث التونسي في علم الاجتماع، فؤاد غربالي، أن «تصريحات السبسي السابقة كانت بمثابة (طرح) بالون اختبار للقوى السياسية والمجتمع المدني في البلاد».
ويشرح غربالي، في حديثه إلى «الأخبار»، أن السبسي أراد القول إن هناك شبانا تونسيين بالآلاف يقاتلون في سوريا والعراق وليبيا وقد غادروا تونس تحت مسوغات معينة، وبحكم أن موازين الحرب المدمرة في تلك البلدان قد بدأت تتغير، فإن هؤلاء سيعودون عبر مسالك مختلفة إلى البلاد، وذلك سيمثل مشكلة كبيرة نتيجة لما امتلكوه من خبرات قتالية واستخبارية، وبالتالي ما أراد اختباره السبسي بالضبط، وفق غربالي، هو الاستعداد الداخلي لإيجاد حل.

دوامة البحث عن المخارج

من وجهة نظر الباحث في علم الاجتماع، فإنّ الحل «ليس جاهزاً»، وقبل كل شيء «يجب الاعتراف بأن النقاش تطغى عليه مناقشات سطحية وإعلامية، محكومة بحسابات سياسية معينة». لكن الغربالي يعتبر أيضاً، أنه يفترض إعداد دراسات وطنية معمقة وجدية حول الظاهرة لتحليلها وفهم أبعادها، وخصوصاً أن التونسيين العائدين من بؤر التوتر «لم يأتوا من المريخ»، وإنما من المجتمع التونسي نفسه.
على جهة أطراف سياسية وعدد من النقابات، فكما يُقال بالدارجة التونسية: «ما فماش توبة»، وإنما «قانون الإرهاب» هو الحل. وفي حديث لـ»الأخبار» مع الأمين العام لـ«حزب الوطنيين الديموقراطيين الموحد»، والنائب عن «الجبهة الشعبية»، زياد لخضر، يقول «إننا ننظر إلى قانون التوبة على أنه محاولة لإغلاق ملفات الشباب المسفّرين والذين تورطوا بأعمال إرهابية ضد شعوبنا العربية، وخصوصاً الشعب السوري، وللذين تورطوا أيضاً في اغتيالات سياسية داخل البلاد». ويضيف أنّ عودة هؤلاء «تخلق حالة من التوتر والريبة في تونس، ولا توبة لهم أو مغفرة سوى من خلال محاسبتهم بصورة صارمة وحازمة، وفق ما ينص عليه قانون الإرهاب، بسسب ما ارتكبوه من جرائم حرب وفق تعريف القانون الدولي أيضاً».
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن من بين آخر الاحصاءات التي صدرت (تقرير لذي صوفان غروب)، يتضح بأن أعداد المقاتلين الأجانب في صفوف «داعش» وتنظيمات متطرفة أخرى، بلغت ما يقرب الـ27 الفاً، وبحسبها فإن تونس تأتي على رأس قائمة الدول «المصدرة للجهاديين»، بعدد مقاتلين يبلغ 6500. لكن عدداً من التقارير يذكر أن واحدة فقط من بين كل ست دول تقدم إحصاءات رسمية عن عدد مواطنيها الذين غادروا للقتال في بؤر التوتر. ولذلك، في ظل غياب إحصاءات رسمية دقيقة من الدول المعنية وأبرزها السعودية، فإن تونس تُظلم إعلامياً. فعلى سبيل المثال، إنّ تقديرات «TSG» بشأن المقاتلين السعوديين بلغت 2000 مقاتل، لكنها ستكون أكثر من ذلك بكثير في حال أعلنت الرياض عددهم الحقيقي.
وبالعودة إلى مسألة الحل المبتغى، يرى لخضر أن هناك «ضرورة للتعاطي مع مسألة المُسفرّين التونسيين على قاعدة عقد مؤتمر وطني يهدف إلى كشف ملابسات هذه القضية، وتحميل الجهات التي تورطت بتمويلهم وتسهيل سفرهم إلى سوريا المسؤولية الكاملة بغية محاسبتها، وخصوصاً المفكرين والأئمة الذين غررّوا الشباب بأفكار متطرفة وكاذبة خدمة لأجندات سياسية معينة». ويتابع بأن «هؤلاء المجرمين خطرين جداً، ولا يمكن إعادتهم إلى المجتمع التونسي الذي يُراد نقل الاقتتال إلى داخله، خصوصاً في ظل الظروف القاسية والحروب المدمرة الناتجة عن السياسات الامبريالية والصهيونية التي تهدف إلى تمزيق أوطاننا وتجزئتها». ويعتبر لخضر أن على الحكومة التونسية بذل جهد كبير للتواصل مع الحكومة السورية بهدف الحصول على معلومات ومعطيات دقيقة بشأن التونسيين المعنيين.
مباركة عواينية (وهي أرملة الشهيد محمد البراهمي، الذي اغتيل في صيف 2013) لها قصة شخصية في هذا الشأن، وخصوصاً أن الحكومة والجهات المعنية بتحقيق العدالة لزوجها ولشريحة واسعة من التونسيين، لم تتصرف بصورة جدية حيال القضية، ولم تحاسب الارهابيين المتورطين في الاغتيال. ولكونها خبرت جيداً تعامل الدولة مع هذه المسائل، فإنها تدعو، بصفتها رئيسة شرفية لـ«التيار الشعبي»، وكونها نائب في البرلمان التونسي عن «الجبهة الشعبية»، الحكومة والدولة إلى تطبيق «قانون الإرهاب» على «المسفرين العائدين من بؤر التوتر». وتؤكد في حديثها إلى «الأخبار»، أن «قانون التوبة ليس إلا تحايلا على العدالة، ويجب الوقوف جدياً حيال هذا الموضوع، ومساءلة كل الذين تورطوا في تسفير الشباب التونسي وتمويلهم، وتفكيك كل الشبكات المتورطة في هذا الشأن ومعاقبتها».