صحيح أن اغتيال النائب العام هشام بركات، قبل أيام، لم يحمل بصمات داعشية تتصل بـ«ولاية سيناء» ــ التي لا تتأخر في إعلان عملياتها، بل نقل مقاطع مصورة عنها ــ ولكنه يأذن بأن النار القادمة من الشرق بدأت تلفح وجه العاصمة. حتى في اليوم الأسود الجديد الذي ضرب بالجيش وقوى الأمن، أمس، فإن انفجارات وأحداثاً أخرى بدأت تدوي في القاهرة وضواحيها، وبات الناس يعيشون أجواء كانوا يسمعون بها في دول أخرى.الغريب في الأمر أن ما جرى كان متوقعاً، وكان الجيش واقفاً ينتظر من يلطمه على خده، وظهر هذه المرة كما المرات الماضية، واقعاً في لعبة «صيد البط».

هذا ليس حديث الصحافة، بل ما كانت تشرحه مصادر أمنية وميدانية إلى «الأخبار»، حينما قالت إن معلوماتها تشير إلى عمليات كبيرة قريبة، فيما كانت تركز عملها على تحصين موقع الكتيبة «101» (العدد ٢٦٢٤ في ٢٥ حزيران)، التي تحوي مقر الحاكم العسكري للعريش، ومقر قائد العمليات العسكرية للجيش الثاني الميداني، وكذلك أكبر وأهم المعدات والآليات العسكرية، إضافة إلى قاعدة جوية عسكرية.
يبدو أن تلك التحصينات «المميزة» ــ ألواح إسمنتية على شكل أقواس ارتدادية ــ التي كلفت نحو ستة ملايين جنيه، حمت مقر الـ«101» من الدمار هذه المرة، ولكنه سيظل يعتبر «وجبة شهية» لـ«ولاية سيناء» التي تريد أن تدمر مركز التحقيق الشهير فيه. هل هذا يعني أن القيادة المصرية تركت باقي المقارّ والجنود فيها عرضة للموت؟ الملاحظ أنه على طول الخط الحدودي من غزة إلى الطريق الواصلة بالعريش ثم قناة السويس، يتحصن الجنود ــ غالبيتهم صغار العمر ــ في مواقعهم غالباً، ولا تظهر آثار نشاط الجيش وعيونه إلا حينما تشن الحملات على المناطق السكانية والمدنية، ما يسبب مزيداً من الآلام للناس، بينما تبقى «ولاية سيناء» تجول وتصدر الإصدارات المرئية واحدة تلو أخرى، وتنفذ إعدامات متتالية، بل تنشئ حواجز مثلها مثل الجيش على الطرقات لاغتيال واختطاف من تشاء.
هذا الأسلوب الدفاعي ــ الانكفائي، بالتأكيد، لن يجدي نفعاً في ظل تطوير الجماعات المسلحة أساليبها، بل استيراد خبراتها في المعارك التي خاضتها في العراق وسوريا إلى سيناء، في ظل أن الجيش المصري ينشئ تحصينات إسمنتية أو حديدية، تذوب مع أطنان السيارات المفخخة التي تتقدم معارك «داعش» عادة، وفي الأمس محت موقعين (كميني السدرة والشيخ رفاعي) عن الوجود وقتلت من فيهما.
إذن، وقعت «صولة الأنصار 5» التي كانت تعد بها «الولاية الداعشية» علناً في رمضان، الذي شهد ولادة «داعش» وكبرى اعتداءاتها طمعاً بـ»ثواب أكبر». «صولة» أدت إلى مقتل عشرات الجنود وإصابة المئات دفعة واحدة، بينما لم يتمكن الجيش من إبداء رد فعل سريع، وفي أحسن الأحوال، فإنه صرح بقتله نحو عشرين من المهاجمين، الذين ضربوا 15 موقعاً عسكرياً في اليوم التالي لذكرى «30 يونيو»، فماذا عسى أن يفعل عبد الفتاح السيسي الذي يرأس أحد أقوى الجيوش العربية؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، فإن نظرة فاحصة في سنة من حكم السيسي تظهر أن استخدام القوة المكثفة، ووعد السيناويين ــ مثلما فعل حسني مبارك ومحمد مرسي من قبله ــ بالتنمية وجعل شمال سيناء كما جنوبها، لم يحققا شيئاً. عملياً، أتم الجيش المصري هدم الأنفاق مع غزة التي كانت تتهم دوماً بأنها المصدر الأول للإرهاب إلى سيناء، وكذلك بدأ بعزل 1000 متر من الحدود الممتدة لنحو 14 كلم، وهدم ما فيها من مبانٍ ومساجد ومدارس ليحيلها إلى منطقة فارغة... لكن، بقيت الاعتداءات على الجيش مستمرة، وبهذا يمكن استنتاج أن الجيش كان يواجه الناس لا المسلحين، فهو أتى على ممتلكات سكان تلك المناطق من دون أن يوقف العمليات ضده.
وبسبب الضربات الكبيرة التي تلقاها الجيش في الأشهر الأخيرة، أعاد السيسي تمديد حالة الطوارئ في سيناء، ثم ترتيب هيكلة القيادة، فوحد رئاسة الجيشين الثاني والثالث في سيناء تحت إمرة الفريق أسامة عسكر، متعاملاً مع الأمر بشخصانية عالية جداً حينما ألقى المسؤولية على عسكر أمام الإعلام والجمهور. أيضاً، هذا لم يجد نفعاً، برغم أن عسكر اتجه إلى تكوين تحالفات قبليّة وعشائرية (العدد ٢٥٨٧ في ١٢ أيار) لم تثمر شيئاً سوى زيادة الاختلاف والانشقاق بين القبائل نفسها، التي اجتمعت بالرئيس أخيراً وحملته مسؤولية التنمية ووقف إكمال المنطقة العازلة في رفح (العدد ٢٦٢٥ في ٢٦ حزيران).
كل ذلك يحيل فعلاً إلى نظرية الخارج، وأن أحداً يدفع في ظل الحرب مع «الإخوان» وأحكام الإعدام المتتالية التي يصدرها النظام بالجملة، إلى مذبحة كبرى. هذا ليس مستبعداً، بل ثبت في ليبيا وسوريا والعراق واليمن، وظهرت بوادره في السعودية والكويت وتونس، فكيف تكون مصر، التي تتوسط كل هذه البلاد، بمنأى عنه؟
الآن، لن يثمر الوعد بالانتقام شيئاً، فحتى مشاعر المصريين لم تعد مليئة بالغضب كالسابق أكثر مما هي ممتلئة اليوم بالخوف، في ظل أن «جيشاً عربياً عظيماً» وقف بجانب شعبه في أكثر من مفترق، لا يستطيع صد هجوم واحد وإحباطه، بل إن «ولاية سيناء» كانت تشرح بالتفصيل أنها استغرقت أشهراً من الإعداد والتدريب لأمر عظيم في رمضان يستهدف «جيش الردة»، ولم يفعل أحد شيئاً لمنع الكارثة.
أياً يكن، تودع مصر العشرات من شهداء جيشها أمام مجموعات مسلحة لا تستهدف إسرائيل أو حتى الوجود الدولي في سيناء الذي تتحدث عن «كفره»، والبلاد الآن في وجه استحقاق كبير أمام الهيبة العسكرية، وأمام نظرة شعبها إلى «الجيش الذي هزم إسرائيل» يوماً ما، في ظل أن جهات كثيرة تأخذ هذه الاعتداءات مادة للمزايدة السياسية، في معركة كانت يجب أن توصم بالإرهاب، والإرهاب فقط.
(الأخبار)