معركة حلب حُسمت. إنجاز كبير جداً يسجل للجيش السوري وحلفائه، وخسارة بطعم الهزيمة المطلقة للمسلحين ورعاتهم. من شأن نتيجة هذه المعركة أن تلقي بظلال ثقيلة جداً على المسلحين وعلى المشروع الموضوع لهم من الجهات الإقليمية والدولية التي تقف خلفهم. نعم، الحرب لم تنتهِ، لكن مفصلاً رئيسياً كبيراً جداً من مفاصلها انتهى، بتوقيع من الجيش السوري وحلفائه.
استعادة حلب ليست واقعة ذات تداعيات آنية، تداعياتها ومدلولاتها استراتيجية بالمعنى الفعلي لكلمة استراتيجيا، ويكفي للدلالة على حجم الإنجاز صراخ وعويل الجماعات المسلحة، والجهات الإقليمية والدولية الداعمة لها، وصولاً إلى مجلس الأمن.
في ذلك، يمكن الإشارة إلى الآتي:
ــ مع استعادة حلب، سقط الرهان على إمكان إنشاء كيان موازٍ للجماعات المسلحة في وجه الدولة السورية. وهو ما لا يمكن أن يتأسس له من دون المدينة بثقلها الديموغرافي والجغرافي والسياسي والعسكري. هذا هو الخيار الأمثل لدى الجهات الإقليمية والدولية، في ظل تطورات ومتغيّرات العامين الماضيين، بمعنى التقسيم الفعلي لسوريا، سواء أعلن عن هذا التقسيم أم لم يعلن، وكان من مستلزماته الحيوية إبقاء حلب في أيدي المسلّحين.
ــ من هذا المنظور، كان بقاء حلب في أيدي «المعارضين»، إلى جانب خيار التقسيم، ثقلاً سياسياً كان يراد له أن يكون حاضراً لحظة الاستحقاق في المفاوضات السياسية وما يعرف بالحل السياسي، الذي من دون ضغط ميداني فعلي مؤثر، لا يفضي ــ كحل ــ إلى تسوية تنهي هوية الدولة السورية من بوابة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد أو تخليه عن صلاحياته، وغيرها من الصيغ المؤدية بالمضمون إلى استسلامه.
ــ لا جدال في أن الدور والفاعلية والتأثير الخليجي، حتى ما قبل واقعة حلب، تقلّصت إلى حدّ يكاد يكون مقتصراً على الدعاية والتحريض الإعلامي، إلا أن معركة حلب حققت وأظهرت وثبتت تظهير محدودية التأثير التركي. استرداد حلب أظهر أن مدى كفّ اليد التركية أوسع ممّا كان يحكى عنه قبل عملية الاسترداد، حتى مع الحضور التركي العسكري المباشر. هذه الحقيقة، أي تظهير وتأكيد تحجيم الدور التركي في التأثير الجذري على مجريات الحدث السوري، هي أيضاً تظهير لسقوط رهانات ومعادلات إقليمية من البوابة التركية، التي استسلمت أمام الواقعة رغم تأثيرها السلبي على مجمل مشروعها وخططها في سوريا، ومن دون المبادرة إلى فعل، مباشر أو غير مباشر، من شأنه تقييد استعادة المدينة.
ــ ضمن هذا المأزق، وفي سياقه وبسببه، يأتي تحرك تنظيم «داعش»، رغم الضربات الموجهة إليه في الفترة الأخيرة، التي تتجه ــ الضربات ــ كما يبدو من المعركة الميدانية نفسها ومواقف الأطراف المعنية، إلى التقلّص والتأجيل على ضوء المستجد السوري شمالاً. تحرك التنظيم وإعادة تفعيل دوره في سوريا، وانتقاله من الدفاع إلى الهجوم كما تبدّى في مدينة تدمر وحولها، لم تأتِ صدفة في ساحة تخلو من الصدف. لا يبعد، بل ومن المرجح منطقياً، أن يكون التنظيم قد سارع إلى تلبية الدعوة والطلب ضمن عملية تخادم متبادلة بينه وبين الجهات الإقليمية والدولية المعادية للدولة السورية. بعبارة أخرى، يعاد إحياء الدور الوظيفي لـ«داعش» في الساحة السورية، وإذا كان هذا التنظيم قد عمل وظيفياً كقوة رديفة للجماعات المسلحة في سوريا، فالتوجه كما يبدو إلى أن تتسلم هذه الجماعات، نتيجة إخفاقاتها وفشلها، الوظيفة الرديفة لـ«داعش»، بينما يتولى هو المهمة ضد سوريا وحلفائها.
ــ من منظور استراتيجي، لا تقل عملية استرداد حلب، ببعدها الدولي وكمحطة فاصلة في الحرب السورية، عن أزمة الأسلحة الكيميائية التي أظهرت في حينه محدودية المبادرة الأميركية وانكفاءها. انكفاء يؤكده المسعى الأميركي قبل استعادة حلب، باتباع واشنطن سياسية حافة المواجهة مع روسيا والدولة السورية وحلفائها، عبر التهويل بالتدخل العسكري المباشر، وانكفائها الفعلي في أعقاب التهديد المقابل من روسيا والدولة السورية وحلفائها.
ــ استعادة حلب وموقف الأطراف المعادية التي اكتفت بالصراخ والنحيب، يؤكدان من جديد أن مناعة الدولة السورية وحلفائها لا تقاس بالماضي. الخطط الموضوعة لمواجهة الانتصار، أو ما يمكن أن يوضع لمواجهته، لن يرقى بالمطلق كي يلامس حدّ الخطر الذي كان سائداً قبل عامين. بهذا المعنى، استعادة حلب انتصار كبير جداً، واستراتيجي جداً.
ــ لا شك في أن حسم الجيش السوري في حلب عزّز أكثر المكانة المعززة للرئيس الأسد وهوية الدولة السورية تبعاً له. مسألة إسقاطه باتت خارج الحسابات المنطقية، كما كانت عليه الآمال الإقليمية والدولية الابتدائية للحرب السورية.
ــ تبقى الإشارة إلى أنّ إقدام الجيش السوري وحلفائه على أصل إصدار قرار استعادة حلب، ومن ثم تنفيذ القرار، يثبتان من جديد أن امتلاك القدرات وحده لا يفرض المعادلات ولا يصل إلى نتائج، ما لم يكن مقروناً بإرادة تفعيل هذه القدرات. ومن شأن ذلك، في الموازاة، أن يظهر المدى الذي بإمكان الآخرين أن يصلوا إليه، حتى مع امتلاكهم للقدرات العسكرية. لجم الاندفاعة التركية وتخلّي أنقرة قسراً عن حلب، وكذلك حجم ومدى الانكفاء الأميركي، لم تكن لتتمظهر بالصورة التي تمظهرت بها، لولا قرار استعادة حلب وتنفيذ هذا القرار.